المنشور

السماكون آخر ضحايا التطور العفوي

يعبر مسلسل انهيار الحرف البحرينية والخليجية عامة عن غياب التخطيط لأشكال التطور الاقتصادية المختلفة، وسيطرة اهتمامات ودوافع الملاك الكبار على هذا التطور وغياب الآلية الحكومية القادرة على الجمع بين كل أشكال التطور الاقتصادية المفيدة.
في البدايات ذهبت حرف النسيج والفخار والمداد ثم الحدادة والتناكة والزراعة ثم جاء الدور على حرفة صيد السمك.
وكان الحرفيون المنتجون بلا صوت نقابي أو سياسي مدافع عنهم، إلا الغاصة الذين ثاروا بشكل عفوي ولكن جاء التطور الصناعي العالمي فدفن الحرفة ودفن عالمهم وفنونهم وثقافتهم.
واندفع توسعٌ أرضي مجنونٌ، ودفان كإعصار يمضي بشكل نهم لمصالح المالكين والمتنفذين على السواحل، أغرق البحر من جهات حيوية بالحصى والملوثات المختلفة.
فدُفنت الحظور وبيئات السمك المختلفة، وكلما أنشأ الصيادون فرضة أو موقعاً لقواربهم أُحيط فجأة بالرمال والأبنية وأقيمت حواجز الأحجار عليها.
كانت كل قرية وأحياناً كل “فريج” يمثل موقعاً للصيد، الحظور والشباك والقوارب وأسواق بيع السمك البسيطة شبكة من الاقتصاد الشعبي القائم منذ قرون.
وجاء الدفن وتملك الشواطئ ودفنها بالمخلفات، ولا أحد يعرف بأي قيم مالية تم كل هذا، وأين ذهبت إيرادات كل هذه العمليات المروعة، ولكنها بالتأكيد لم تذهب للتخطيط السليم تجاه مهن البحر، ولا لمساعدة الصيادين ولا لتطوير حرف الصيد.
الجهات الحكومية المسؤولة عن ذلك ترى كأن البحر شيءٌ مائي خالد، سوف يبقى بهذا الشكل إلى الأبد، والبحر كائن طبيعي وتاريخي واجتماعي، متصل اتصالاً وثيقاً بأشكال الحياة الطبيعية والاقتصادية، كتوسع المدن وطبيعة هذا التوسع وكيفية إعادة مياه المجاري وتوزيعها وطبيعة المكونات فيها، ونوعية المباني الجديدة المقامة على الشواطئ وكيفية اتصالها بمياه البحر.
لا توجد جهة حكومية تدرس مثل هذه التحولات العمرانية، وحين حُفر ميناء سلمان أدى إلى جفاف الينابيع والعيون في المنطقة الشرقية من البلد عبر تسرب مياه البحر إليها.
كذلك كان الارتماء العمراني والصناعي في هذه السواحل الشرقية وترك كل السواحل الأخرى والجزر شكلاً آخر من العفوية التطورية الذي تحدوه الدوافع التجارية النهمة وتقليل تكاليف المؤسسات وتسريع التصدير ولكن على حساب البيئة.
حتى صارت مناطق أخرى سكنية أشبه بالكراجات وحرب عصابات الورش واختلاط المؤسسات الصناعية والتجارية التي تقذف كل ملوثاتها في المياه.
كانت الأسماك في منطقة سترة مميزة في جودتها، ثم أخذت تتدهور على مر السنين، فكان يُقال صافي سترة، والآن يُقال صافي البديع الذي يعيش عند ساحل لم تهزه بعد كل تلك العواصف المعدنية.
كانت الوسائل البسيطة المجربة في الصيد كاستخدام الشباك الذي يسمح لصغار السمك بالعيش، والمصايد الحديدية التي تتلاءم مع البيئة.
وكانت الأعشاب البحرية تنمو باتساع ثم تضاءلت وتصحرت مع كل شحنات “اللواري” التي يقودها العمال الأجانب لدفن البحر في اندفاعات ذات طبيعة مجنونة لا أحد يعرف كيف تجرى.
تلك الوسائل التي استخدمها الصيادون على مر السنين كانت استثمارا عقلانيا لخيرات البحر، فهي تأخذ منه وتغذيه كذلك، لكن الوسائل الجديدة للصيد الجارفة للكائنات البرية من سمك وعشب ومناطق طبيعية مرجانية وفشوت، راحت تنتزع الخيرات منه وتدمره.
ويرتبط هذا بتغير السوق كذلك، فقد تكاثر المشترون، وتغيرت البضائع الحية التي يشترونها مع تفاقم العمالة الأجنبية، التي هي تأكل كل شيء حي حتى لو كان الحلزونات والقواقع.
وهذا أدى إلى تغيير أدوات الصيد وجرف كل شيء، وتفاقم انتزاع صغار الأسماك والأسماك في حالات بيوضها من دون مراعاة لمواسم التكاثر ليتم عرضها للمشترين النهمين لكل شيء رخيص.
هذا التكالب على الخيرات البحرية، والهجوم على السواحل، وتبدل خرائط المنطقة السياسية والحدود، وعدم وجود مجلس تعاون سمكي أو بحري بين هذه الدول المطلة على البحر، كل هذا جعل حصة البحرين من الثروة السمكية تقل سنة بعد أخرى.
وارتبط مع هذه الإشكاليات منع الصيادين من الصيد في مواقع معينة أو إلقاء القبض عليهم وحبسهم.
ورأينا الأزمة تتجسد في تصاعد الأسعار المستمر، بشكل فاق التوقعات، وبحدوث تهريب واسع للأسماك إلى الأسواق الأعلى سعراً، واحتكرت الفنادقُ الأسماكَ الممتازة، لتقدمها بأسعار خيالية لنزلائها، فغدا أكل “الهامور” شيئاً من وجبات الأثرياء.
انعكست أزمة البيئة البحرية على الصيادين والمستهلكين،
وكانت الهيئات الحكومية المسؤولة جامدة في متابعتها لهذا التفاقم المستمر للأزمة، وعدم وجود مؤسسة أبحاث متابعة لهذا كله، وعدم تقديم بدائل كمزارع الأسماك ومواجهة الدفن غير العقلاني والمحموم وبعدم إعطاء تسهيلات للبحارة وعدم إنشاء فـُرضٍ جديدة ومحال بيع أسماك ذات شروط صحية وعرضية ممتازة بدلاً من هذه الاسطبلات الحجرية التي تـُبنى، والعالية الإيجار كذلك.
وكانت أجور عمال البحر متدنية وظروفهم العملية والمعيشية من اسوأ الظروف في عملٍ مضن وخطر، ومتقطع بسبب حالات الجو والبيئة الكثيرة الغبار وتقلبات الطقس خاصة أن أغلب الطلعات البحرية تجرى في الليل، ويغدو النوم في هذه السفن رهيباً، ولهذا فإن العديد من المواطنين لم يتحملوا هذه العيشة وهذه الأجور ودخلت العمالة الأجنبية مهنة الأجداد التاريخية.
ولهذا نجد أن فئة السماكين تتقلص بشكل سريع، وشبكة إنتاجهم التي كانت واسعة صغـُرتْ، مما يعبر عن أن الرقعة البحرية الثرة بالأسماك في مدى العقود السابقة تعرضت للتقلص والنزيف حتى صارت رقعة محدودة لا تلبي حاجات السوق المتصاعدة المحمومة.
فهناك في البحر تحجيم وتلوث وموت للكائنات، وهنا في السوق تزايد للسكان ومجيء عمالة يعيش أغلبها على أكل السمك.

صحيفة اخبار الخليج
1 مارس 2009