المنشور

من المجالس المحفوظية

لم يكن نجيب محفوظ يحتفظ بأصول رواياته ولا بالمسودات. وكان يمكن للكثير من الروايات أن تفقد قبل الطباعة, لأنه لا يملك سوى نسخة واحدة هي تلك التي يدفعها للناشر, خاصة وان آلات النسخ منذ عقود لم تكن متوفرة. بل ان أهم رواياته كانت يمكن ان تلقى مصيراً مجهولاً بسبب ذلك, فالثلاثية في الأصل لم تكن سوى رواية واحدة عنوانها كما اقترحه محفوظ «بين القصرين», تقع في نحو ألف وثلاثمائة صفحة من القطع المعروف بـ «فولسكاب» بخط يده, وكانت في نسخة واحدة فقط ذهب بها الكاتب إلى ناشره السحّار, ففوجئ بالناشر يقول له: «إيه الداهية دي.. إزاي حاننشرها؟». الحكاية رواها محفوظ نفسه لجمال الغيطاني في إحدى جلساته الأسبوعية, حيث شرح كيف انه خرج من عند السحار حزيناً يكلم نفسه, فيما المخطوط عند الناشر. بعد نحو عام اتصل يوسف السباعي بمحفوظ قائلاً له انه سيصدر مجلة أدبية بعنوان «الرسالة الجديدة», ويعرض عليه إمكانية نشر رواية مسلسلة له. عندئذ سارع محفوظ إلى السحار, ولحسن الحظ كان الرجل محتفظاً بالأصل الوحيد, فاسترده منه وبدأ نشر الرواية مسلسلة, بعد حين اتصل به السحار وعرض عليه نشر الرواية على ثلاثة أجزاء منفصلة, وهكذا وصلت الرواية إلى القراء, كما لو انها ثلاث روايات, وليست رواية واحدة. جمال الغيطاني الذي نقل هذه الحكاية في «المجالس المحفوظية» لفت أنظارنا إلى الرعدة التي يمكن ان تصيبنا عند ما نتذكر, فقط مجرد تذكر, ان هذا العمل العظيم كان يمكن ان يضيع أو يفقد لسببٍ ما. ثمة حكاية أخرى تتصل بكتاب محفوظ: «أصداء السيرة الذاتية», فقد حدث أن سئل محفوظ من قبل حرافيش جلسته الأسبوعية عن مخطوطة هذا الكتاب, فأجاب: انها في «الأهرام». أبدى الحضور انزعاجاً لأن تلك الأصداء نشرت مضطربة في «الأهرام», حيث اختل ترتيبها, وسقطت مقاطع عديدة لم تنشر. وطرح الغيطاني عليه فكرة إعادة نشرها في «أخبار الأدب», وحتى الآن لا أحد يعرف شيئاً عن مصير المخطوطة التي يمكن ان تكون قد فقدت أو أتلفت, ويروي محفوظ كيف انه بسبب عدم احتفاظه بالمسودات, فقد أصول رواية خطية لم تنشر عن لاعب كرة قدم, وأخرى عن الريف لم تنشر هي الأخرى, لكنه يذكر أن المخرج السينمائي خيري بشارة حصل عليها, وربما تكون المخطوطة عنده الآن. في «المجالس المحفوظية» أيضاً تحدث محفوظ عن أول عائد مادي ناله لقاء عمله الأدبي, مشيراً إلى انه لم يرسل قصة للنشر وتوقع مقابلها عائداً مادياً قط, إلى ان اتصل به أحد العاملين عند أحمد حسن الزيات, وكان مشرفاً على الحسابات قائلاً له انه (أي محفوظ) تسبب في تعطيل الميزانية, لأنه لم يحضر لاستلام المكافأة, ولما سأله: أي مكافأة, رد عليه: الجنيه.. مقابل القصة المنشورة في مجلة الرواية. كان هذا أول جنيه يدخل جيب محفوظ من الأدب. يقول انه طار فرحاً بسبب ذلك, ودعا في تلك الليلة شلة العباسية كلها إلى الكباب والكفتة و»الهياص».

صحيفة الايام
1 مارس 2009