المنشور

مُدن الكونكريت

هل ستصبح المشاعر هي التي تخصب مدن اليوم الكونكريتية بالماء الضروري؟ هذا سؤال تطرحه كاتبة أمريكية, أو دعونا نقول: كاتبة عاشت في أمريكا في العقود الثلاثة الأخيرة من حياتها قبل أن تموت, هي أناييس ين التي ولدت في إحدى ضواحي باريس عام 1903 لأب أسباني كان عازفاً على البيانو ومؤلفاً للموسيقى, وأم ألمانية الجذور, وتوفيت بالسرطان سنة 1977في لوس أنجلوس. وكانت الكاتبة قد تنقلت بين كوبا وفرنسا, وصادقت هنيري ملير, ولورانس داريل وآخرين, ولكن إقامتها الطويلة في أمريكا جعلت منها إلى حد ما كاتبة أمريكية, وقد قفز اسمها على قائمة أعلى المبيعات في أمريكا وبريطانيا بعد وفاتها بشهور قليلة عندما ظهرت مجلدات يومياتها التي ترجمت إلى لغات عديدة. قامت الأديبة العراقية المعروفة لطيفة الدليمي بترجمة مختارات من هذه اليوميات التي تضمنت ذكريات وانطباعات عن زملائها, خاصة هنري ميلر. تقول أناييس ين: « تعاني أمريكا من طقوس عبادة الصنعة والتكتيك, فكل تكتيك هو صنعة أو حرفة تتخذ من الخارج, ولا تنبع من ضرورة داخلية أو من رؤية عميقة. إنها تقوم بعمل فوتوغرافي. أو تكتفي بالتدوين التسجيلي فحسب, دون أن تفوز بالحياة». والكلام هذا يرد في شهادة بعنوان «آليات الكتابة لدي» لتقرر بأنها تكتب «علم جبر عاطفي», وسيبدو هذا تعبيرا غريباً للذين يكرهون الرياضيات. أما الذين يعرفون ماذا يعني الجبر في الرياضيات فسيمسكون بالفكرة ولا شك. وهي تشير بشكل خاص إلى اليوميات التي تكشف برأيها «عن عادات كثيرة, عادة الأمانة والصدق في الكتابة. فليس ثمة من يعتقد أن يومياته سيقرؤها الآخرون .. ثم هناك عادة الدأب المستمر على الكتابة حول كل ما يتمناه المرء, ثم العفوية والحماس, الأحلام وهي تمر عبر وجوه الفعل وواقعيته, ثم المرور من أقصى الفعل إلى الحلم مرة أخرى». إن مركز الثقل في أقوال الكاتبة وإبداعاتها هو العاطفة, هي المشاعر التي تمد الجذور بالغذاء, وتفضي إلى ذروة الازدهار والتفتح, وتخصب ملايين الخلايا. من هنا ينشأ سعيها للكتابة عما تصفه «الحالات النفسية», كي تبرز ماهية المشاعر والأحاسيس, التي تجعلها مشدودة إلى الموضوعات الأنثوية ولغة العواطف, التي هي قرينة العفوية والارتجال والتداعي الحر في مواجهة صرامة الوقت وتجهم الواقع. ولأن الحديث يدور عن المدن الكونكريتية, فاني أحسب انه حديث يعنينا بمقدار من المقادير, نحن الذين بتنا محاصرين بهذا النوع من الكونكريت الشاهق, الذي يُشعرنا بالضآلة أمامه, ويصادر منا ذلك الشعور العفوي بالبساطة والوداعة التي ألفناها, خاصة إزاء الغربة التي تنتاب الغالبية الساحقة من الناس تجاه هذا النوع من المدن التي لا يجدون لأنفسهم مكاناً فيها. مثل هذا النوع من الشعور بالغربة سيتفاقم مع توسع هذا النوع من مدن الكونكريت التي تسرق فسح البحر الممتد وفسح الفضاء المفتوح على السماء, وتترجم كل شبر من الأرض بقيم مهولة من المال تدوخ رأس الإنسان البسيط منا, الذي تبدو طموحاته في عيش كريم اقل كلفة بكثير من هذا الذي يبدر في إنشاء هذا النوع من المدن, التي تذهب للقادرين على الدفع.
 
صحيفة الايام
26 فبراير 2009