المنشور

ثَـلاثِيـنَيـّة ثَــورةِ بَـهْـــمـَنْ

تمر هذه الأيام من فبراير الجاري ذكرى ثلاثين عاما على نجاح ثورة ‘بهمن’ الإيرانية، التي حطّمت أركان أقوى نظامٍ حليفٍ لأميركا والغرب في قلب الشرق الأوسط وأزالت أقدم ملكية استبدادية في الشرق(عمّرت حوالي 25 قرنا) من صفحات التاريخ البشري! ولم تدخل التاريخ كأحد أهم ثورات القرن العشرين فحسب بل إنها أعادت الاعتبار لنظرية الثورة المعتمدة على حركة الجماهير في التغيير المنشود، من خلال التعبئة السياسية لحفز الوعي الاجتماعي الجماهيري، المنطلقة من النفس الطويل وعبر الحشود والموجات الشعبية – غير المسلحة- في مواجهة أعتى الجيوش النظامية، المدججة بأحدث الأسلحة ومدى إمكانية مجابهتها والانتصار عليها، الأمر الذي نجحت فيه ‘ثورة بهمن’ أيما نجاح واستطاعت – كما رأينا- تحطيم نظام استبدادي مطلق قلّ نظيره في العالم الحديث!
وكون الثورة كانت جامعة، اشترك فيها مختلف الطبقات والفئات الشعبية، وكل التنظيمات السياسية، يسارا ويمينا عدا الحزب الرسمي الوحيد الحاكم ‘رستاخيز’ (البعث).. اتسمت بعدة صفات: حركة شعبية عارمة من حيث المشاركة والسعة، ديمقراطية من حيث التعاون فيما بين جُلّ القوى والهدف المرجو تحقيقه ضمن أهداف الثورة (الحرية/الديمقراطية، القضاء على الفقر، التقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.. الخ)، وطنية بمعنى التخلص من الهيمنة الأجنبية. إذن كانت ثورة شعبية/ ديمقراطية/وطنية/تقدمية من حيث المحتوى والأهداف والتوقعات الكبيرة، التي سرعان ما تلاشت تدريجيا في صراعات وحروب خرج منها الشريك الأقوى المتمثل بالأجنحة الدينية ظافرة على الآخرين مُهَيمنة على السلطة، مُستبدّة بلا رحمة بالشركاء الأصغر عددا وعدة!
إن ما يؤسف له الآن وبعد 30 عاما من عمر الثورة وحسب تعبير بعض الأكاديميين الروس في حينه أنها كانت.. ‘خطوة إلى الأمام وخطوتان إلى الخلف’ وذلك بعد أن تحولت إلى دولة استبدادية مطلقة ذي نهج سياسي/ ديني أحادي. على أن الإنصاف يستدعي ذكر أن النظام الحالي قد قام ببعض التحولات الاقتصادية والتقدم التقني/ العسكري وصار له الحضور السياسي الإقليمي ولكن لم يستطع أن يقضي على الفقر والعوز والحاجة عند الجماهير الإيرانية العريضة بل إن الفقر قد زاد بمراحل، بجانب أن الأخلاقيات التي اتسمت بها الشعوب الإيرانية قد تراجعت إلى حد مقلق، حيث تسود المحسوبية والرشوة والفساد في المجتمع الإيراني المعاصر إلى درجة لا تطاق ولا توجد مثلها في بلدان أخرى وذلك بعد أن أضحت الثورة دولة تأكل خيرة أبنائها، من خلال نمطٍ فريدٍ من حكمٍ لا مثيل له (ولاية الفقيه)، كونه توليفة غريبة من الديمقراطية الغربية ودولة الاستبداد الشرقي/الديني العتيق!
لكن ما قصة هذه الثورة، التي ألهمت القاصي والداني في حينها وشهدت إرهاصاتها الأولى في سبعينات القرن الماضي وتعززت بوتائر متسارعة، متوالية منذ النصف الثاني من السبعينات ذاتها، جاءت على شكل موجات وهبات بشرية لا تنتهي، تكبر تباعا وتتوسع بثبات راسخ ومثابرة متواصلة وهي تتعرض لأشد أنواع القمع من قِبَل الجهاز العسكري من جهة والمخابراتي الرهيب (السافاك) من جهة أخرى، حتى تكللت – في النهاية – بنجاح منقطع النظير، استطاعت فيه المعارضة من الاستيلاء على السلطة، عبر الانتفاضة المسلحة المشهودة، في فجر يوم الحادي عشر من فبراير سنة 1979 الموافق 22 بهمن (حسب التقويم الشمسي الفارسي) 1357 هجرية.. ما قصة اللحظات الحرجة من تلك الليلة ‘القمراء’ والمبادرة الجسورة التي قامت بها مجموعات صغيرة منظّمة (فدائيي ‘منشب’ / منشعب ومناضلي منظمة ‘نويد’ / البشارة) في الهجوم المباغت على القاعدة الجوية والاستيلاء على الأسلحة وتحطيم العمود الفقري للنظام، الذي كان قد خطط لمجزرة بشرية فاقت كل تصور؟ كيف استطاعت المعارضة من معرفة تلك الخطط الجهنمية؟ ومن كان خلف ذلك؟ ما قصة التعبئة السياسية التي ترافقت تباعا مع النهوض الجماهيري والقوى الفعلية التي قامت بذلك في ظروف شاقة وصعبة فرضها نظامٌ بوليسيّ جائرٌ ومخابراتيّ قاسيٌّ ذو ممارسات فاشية؟
أسئلة لاتنتهي.. في حاجة إلى سرد طويل وموثوق بالقرائن والأدلة، لا يمكن بالطبع الإحاطة بتفاصيله في هذا الحيز المحدود، حيث الحاجة تستدعى إلى مجموعة من المقالات ضمن ملف عن الموضوع. على أنه لابد أن نشير إلى أهم القوى السياسية التي بادرت في استغلال الوضع الثوري، الذي نشأ في حينه ونجحت من توجيه الضربة القاضية للنظام في الوقت المناسب، من خلال شذرات بسيطة منتقاة من سِفر المعلومات المتوفرة الآن عن دور اليسار الإيراني بالذات في اللحظة التاريخية تلك!.
هل دور اليسار في الثورة الإيرانية المظفرة ادعاء مزعوم لا أساس له أم واقع حقيقي لأحداث تاريخية لها سجلها المشهود، يتضح لنا من خلال تفحص الوثائق الجديدة التي تترى تباعا على شكل مذكرات ومقابلات مع الأشخاص الذين أسهموا في التحضير وشاركوا في الثورة أو كانوا شهود عيان لها على أقل تقدير. فدور اليسار الإيراني، الذي عادة ما يجري استصغاره واعتباره هامشيا في الثورة الإيرانية، مقارنة مع قوة الشارع الديني المليوني، كان في الواقع أكبر بكثير مما قد يبدو للوهلة الأولى، ليس في اللحظات العصيبة فحسب عندما كانت السلطة العسكرية بقيادة الجنرال’أزهري’ تخطط لانقلاب عسكري دموي كبير- كما أسلفنا- بل أيضا في بدء النهوض الثوري التدريجي الذي قامت به – أكثر من غيرها- منظمة سرية صغيرة العدد، كبيرة التأثير ألا وهي منظمة
‘نويد – البشارة’، التي وضع حجر أساسها الصحافي اللامع ‘رحمان هاتفي’ المسؤول عن القسم الأدبي والفني في الصحيفة الأكثر انتشارا ‘كيهان’.
لقد تدرج هاتفي في وظيفته الرسمية (القناع المخفي لشخصيته الفعلية) ليكون رئيس تحريرها في الفترة الحرجة عند تعادل ميزان القوى بين الحكم والمعارضة، حينما استطاعت نشرته السرية ‘نويد’، التي بدأت فصلية إبان بداية حركة المعارضة ثم أسبوعية، وصلت في ذروة النهوض الثوري إلى عدة أعداد في الأسبوع، توزع وتعاد طبعها واستنساخها بملايين النسخ! .. ولا يمكن للمؤرخين المحايدين أن ينسوا الدور الكبير الذي قام به حيدر مهركان (الاسم الحركي لرحمن هاتفي) حينما استطاع بحنكته السياسية الكبيرة، الاستفادة من لقاء صحافي دعائي جرى بواسطة النظام في عهد آخر رئيس وزراء مدني قبيل الحكم العسكري، على شكل انتزاع خبر صحافي من رئيس الوزراء يفيد بعدم ممانعة الحكم لعودة كل رجال الدين للبلد، الأمر الذي حدا برئيس تحرير ‘كيهان’ نشر صورة القائد الروحي للمعارضة الإيرانية ‘الإمام الخميني’ في الصفحة الأولى من الصحيفة (كان ممنوعا نشر صورته في الصحف) في ذلك اليوم المشهود، الذي دفعت بالملايين في شوارع طهران والمدن الكبرى إلى أن يضعوا نسخة من الصحيفة تحت إبطهم أو تعليقها وثبتها على نوافذ السيارات والمحلات والأكشاك العامة.. وهو العمل الرمزي الكبير الذي أعطى دفعا معنويا جماهيريا كبيرا لحركة الشارع ومال ميزان القوى المجتمعي لأول مرة لصالح المعارضة للنظام الشاهنشاهي، الذي بات متفرجا مسمرا في مكانه، لم يكن باستطاعته الإتيان برد فعل تجاه صحفيّي ‘كيهان’ أو القيام باعتقال الملايين!
 
صحيفة الوقت
21 فبراير 2009