المنشور

ذرائع عملية القلب المفتوح


سواء كانت المنبر الديمقراطي، أو غيرها من الجمعيات أو الفعاليات السياسية، كانت صاحبة المبادرة في أهمية إجراء حوار وطني، فإن هذه الدعوة بحد ذاتها كانت بمثابة تعليق الجرس في رقبة الوضع البحريني الراهن الذي بدأ بالفعل يغصّ بنفسه وبتفاعلاته التي أدت إلى انحشار الكربون في مجاريه، وإصابته بتصلب الشرايين الوطنية، نتيجة تصلب المواقف التي باتت تطوح بها «الصقور» في أكثر من هيئة وتجمع وجمعية.
فالناظر إلى حال حراكنا الوطني في السنوات القليلة الماضية، وخصوصاً بعدما انفك التحالف الرباعي الذي كان رافضاً للتعاطي مع السلطة التشريعية والانتخابات البرلمانية؛ سيجد أن الفرق بات واضحاً جداً في انعكاسه على الشارع. فلقد كانت المعارضة الذاهبة إلى الاعتدال هي من يقود شريحة واسعة من الرأي العام المحلي، وكان في مقدورها – مع كثير من الجهد وبعض الإخفاقات أيضاً – أن تلجم الحركات المتطرفة المثيرة للفوضى والأفعال العقيمة في الشارع. ولكن ما إنْ دخلت هذه القوى التجربة البرلمانية لترى إلى أي مدى يمكنها التأثير في الطرح العام، وكيف سيكون الوضع في الداخل بعدما رأت كيف كان في الخارج؛ حتى تسيّد الصقور برامج المعارضة، وتراجعت الثقة في الذين كانوا معارضين من ذي قبل بشكل أكثر صراحة من الآن في ظن كثير من الناس.
لقد قادتنا الأزمات والمشكلات والخطابات المتوترة والموتورة أحياناً من جانب، والحلول العقيمة إضافة إلى النهايات المسدودة والتعامي والتصامم عن المشكلات، واعتبار أن كل مطلب هو مقدمة لمشكلة، بدلاً من القول إن كل مشكلة تم السكوت عنها تأتي بمطالب، وتنتهي بيأس، واليأس لا حدّ متوقعاً لكيفية تمثله.. هذان الموقفان المتناقضان منذ عشرات السنين قد آن لهما الانتهاء، وآن للحكومة أن تأتي إلى طاولة الحوار من دون مواقف مسبقة، وللمعارضة أن تتقاطر إلى الطاولة نفسها من غير تشنجات وتصيّد، وذلك من أجل إجراء عملية «القلب المفتوح» لتسييل ما علق في الشرايين من «كوليسترول» السنوات الماضية التي لم يجرِ فيها أبداً التعاطي المباشر ما بين الطرفين حتى يتم تنظيف الملفات أولاً بأول بدل أن تنتفخ إلى هذا الحد الذي لا يُعلم من أن يمكن أن يبدأ الحوار وتبدأ المعالجة.
ونحن لانزال في ذكريات ميثاق العمل الوطني من خلال دورته الثامنة، نستعيد كثيراً من الذكريات التي طافت بتلك الفترة، فلا نتذكر حواراً وطنياً شاملاً وجاداً وذاهباً إلى ما هو أبعد من طرح «ورقة» أو مداخلة أو مجاملة. ربما لا يعلق في الذاكرة إلا لقاءات متفرقة، وأنواع من التجمعات التي يقول كلٌّ قولته، ويعبر عما في نفسه، ويحمل هموم جماعته السياسية أو المذهبية أو المناطقية، وجلس ماسحاً العرق المتصبب عن جبينه، ملتفتاً لأصحابه يسألهم إنْ أحسن الطرح أم لا، ولكن لم نشهد برامج عمل جادة وحقيقية، وتتحول من النظرية إلى التطبيق الجاد المتواصل والممنهج، في سبيل تقديم الملفات واحداً تلو الآخر، والسعي من أجل بسط سيادة الروح الوطنية العامة التي يقف عندها الجميع من دون خلاف في أسسها العامة، ومن دون جدال عليها.
لن يكون من الصعب اليوم أن تلتقي الجمعيات السياسية الفاعلة والأقل فاعلية في حوار وطني، والأمل أن تستجيب الحكومة أيضاً إلى هذا الحوار، فهي جزء أصيل من هذا الوطني، وركن متين من أركان التفاعل الوطني مع مجمل القضايا، بلا إلزام ولا تقريع ولا محاسبات ولا تهويل ولا تخوين ولا تعميم ولا أجندات خفية وأخرى علنية ولا مجاملات ولا رفع عتب ولا وضع العصي في العجلات ولا تعالي ولا صبغ للوجوه ولا تسويد لها ولا عقد الماضي ولا توجسات الراهن ولا يأس من المستقبل ولا عيون حمراء ولا هراوات غليظة ولا بيانات جاهزة.. فالذهاب إلى الحوار الوطني من دون الحكومة سيكون ناقصاً، والذهاب مع الحكومة بملفات يحملها الطرفان جاهزة لرفعها فوق أسنة الحوار ومتى ما انعطفت الطرق وتعقدت المواقف، سيكون حواراً فاشلاً، وردود فعله سترسم في الشارع مباشرة، استمراراً لما كان في السابق.
عملية القلب المفتوح تحتاج – إلى جانب الشجاعة – كثيراً من النوايا الصادقة، والاعتراف بأننا جميعاً (في المعارضة الوطنية والجمعيات السياسية والسلطة التنفيذية) نعبر ممراً يضيق بنا كلما تقدمنا خطوة إلى الأمام زمنياً، ونعترف بأنا قد بلغنا مرحلة عدم القدرة على المرور جميعاً كتفاً بكتف في هذا الممر، وهذا ما يؤدي إلى انتهاج سياسة «نفسي نفسي» التي يتقدم فيها من له قوة وصوت أعلى على الآخرين من دون الأخذ في الحسبان الشراكة الوطنية، وهذا ما سيجعل الوطن يتراجع قبالة الحسابات الفئوية.
 
الوقت 18 فبراير 2009