المنشور

دعوة التقدمي.. هل هناك من يسمع؟!


بالفعل كم نحن بحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى أن نستمع لبعضنا بعضا بل أن نطيل الإصغاء بحب, توخياً لمزيد من الفهم المشترك بين مكونات مجتمعنا البحريني المسالم وصاحب التاريخ النضالي المرصع بالتضحيات الجسام من أجل غد أفضل لأجيالنا القادمة, التي أضحت في زحمة التنافر الحاد الدائرة في مجتمعنا تحملنا مسؤولية الحفاظ على ما تحقق وأنجز بعرق ومكابدة أبناء شعبنا جميعا. وفي ظل عودة تطاير الشرر إلى أجواء بلادنا, بعد أن توَهمنا أننا قد تجاوزنا ذلك إلى غير رجعة طيلة السنوات الثمان الأخيرة, وهي عمر تجربة الانفتاح السياسي التي دشنها شعبنا تحت قيادة جلالة ملك البلاد حفظه الله. وفي ظل حالة الخوف من عودة أجواء أمن الدولة ومصادرة الحريات, كم نحن بحاجة إلى أن تسود لغة العقل والموضوعية والوئام وإعادة التلاحم الوطني الذي بتنا نفتقدها بشكل كبير كل يوم وكل حين, جراء ما يمور به مجتمعنا البحريني من ارتدادات وحالات خصومة وتشنج وانفلات, نعلم أنها ليست إيجابية على الإطلاق, لكنها يجب أن تفهم على أنها إفرازات ممكنة الحدوث في أي مجتمع يمر بتحولات تاريخية على طريق تحقيق دولة المؤسسات والقانون, خاصة وهو ينتقل من مراحل صراع اجتماعي مريرة وأجواء من عدم الثقة, إلى حيث إعادة الاعتبار تدريجيا على الأقل لمجمل الثوابت والقيم السوية التي ترنو لها كل المجتمعات الحية على طريق تقدمها الحضاري المنشود, وانطلاقا من هذا الفهم يمكن؛ بل يجب التعاطي معها من قبل الجميع حكومة ومعارضة ومعنيين بالشأن العام, وبحسب مسؤولياتهم التضامنية في بناء وإشادة مجتمع أكثر تلاحما, وله بالفعل رسالة إنسانية وحضارية تنبع في الأساس من تقاليده وتجارب شعبه بحلوِها ومرٍها.
من هنا فقد جاءت الدعوة الصادقة التي أعلنها المنبر التقدمي بصفته امتدادا أمينا لتاريخ نضالي حافل بالتضحيات والإسهام الوطني نحو تحقيق طموحات هذا الشعب وأمانيه في العيش بكرامة وحرية وعدالة والتي هي ليست جهود وساطة كما حاول البعض أن يقول لنا ذلك, والتي نجزم أنها ممكنة التحقق واقعا, إذا ما استوعب الجميع مسؤولياتهم الوطنية بعيدا عن كل مضامين وخطاب التسعير المذهبي والأيديولوجي والحزبي والطائفي والقبلي, الذي تريد له بعض القوى الطارئة والدخيلة والمهيمنة والمتطفلة أن يسود عبر خطاب متخلف لا ينتمي لهذا الوطن وتاريخه, حيث يرمي لإعاقة أي نهج للإصلاح والتقدم لوطن يستحق منا كل الحرص والمثابرة لإشادة بنائه, الذي يجب أن يكون مزيجا من كل ذلك التنوع الخلاق بين كافة مكوناته الاجتماعية والسياسية المتعددة.
كل ذلك الزخم التاريخي الذي رمت إليه مبادرة التقدمي الوطنية, يجب أن لا يُضيَع في زحمة التكالب على المصالح الآنية والطارئة التي تنشدها انتهازية تلك القوى, التي لم تعرف الوطن يوما إلا من خلال مصالحها الضيقة ضيق أفقها, فهي لم تقرأ بأمانة أبداً تاريخه المضيء, وبات عليها أن تتعلم من تجارب شعوب وأمم أخرى كيف أضاعت تلك الانتهازية المفرطة وذلك النهج الموغل في الجهل والانعزالية والنهم والرغبات الجشعة, وتلك النزوات المغامرة والمكابرة والمتعالية أوطانا وشعوبا بأكملها, حيث يصعب بعدها العودة إلى مسار الوطن المنشود وجادة الطريق المؤدي نحو التقدم والازدهار.
تلك كانت فحوى توجه التقدمي بالدعوة لمبادرة وطنية شاملة لمنع تدهور الأوضاع أكثر فأكثر, والتي أبانت خطوطها العامة ما لا يمكن الاختلاف حوله وخلق آلية حوار وطني تكون كفيلة بحلحلة الملفات العالقة بين مؤسسة الحكم وكافة القوى السياسية دون استثناء أو إقصاء, سواء لتلك القوى الممثلة في البرلمان أو غير الممثلة فيه حاليا, وذلك بغرض خلق تفاهمات مشتركة بين الجميع, حيث يجب أن لا يلزمها الإطار التقليدي الممثل بالجمعيات السياسية والحكومة فقط, بل أيضا تستقطب حولها تلك الشخصيات والرموز الوطنية التي تمتلك من المصداقية وقوة التأثير والإخلاص, ما يشفع لها أن تكون أمينة في الدفع بنهج العمل السياسي السلمي غير المتشنج والسوي الذي تكون غايته الوطن وشعبه, بعيدا حتى عن حسابات السياسة ونزوات بعض الساسة, وتلك ليست بدعة أبداً. فتجربة صياغة ميثاق العمل الوطني الذي دشنت معه البحرين تاريخا جديدا يحق لها أن تفاخر به لا زالت ماثلة أمامنا ونعتبرها وساما على صدورنا جميعا, نحن الذين تعاهدنا على التشارك في قيادة سفينة الوطن إلى حيث تبحر الآن رغم ما يعترضها من صعوبات ومعوقات, والتي علينا أن نفهمها بصبر ونضج وسعة أفق ضمن سياقها التاريخي والموضوعي, تلك التجربة التي بإمكاننا أن نبني عليها بأمانة ومسؤولية, دون خوف أو وجل من أي طرف كان, طالما كان القاسم المشترك هو الوطن ومستقبله, فبقدر إسهامنا في عملية البناء والشراكة الحقيقية المقرونة بدوافع الطموح في بناء مجتمع محصن قدر الإمكان ضد نوازع الفرقة والتباعد والخصومة, ويعرف كيف يتعاطى مع قضاياه بلغة وممارسات حضارية وآليات عمل قادرة على الاستجابة بصدق لمقتضيات عملية الصراع الاجتماعي فيه, إبعادا لأي غبن أو فرز أو تباعد غير محمود بين جميع مكوناته, بحيث يصبح ممكنًا بعد ذلك التقليل من مخاوف المرجفين وشكوك المتشككين وريبة المرتابين.
وانطلاقا من هذا الفهم المتسامي فوق الأهواء والمصالح الضيقة, جاء التجاوب والاحتفاء الشعبي والإعلامي اللافت الذي حظيت به ولازالت مبادرة المنبر التقدمي بالدعوة لمبادرة وطنية شاملة تستطيع أن تلملم ما بعثرته حالات الخصومة والفرقة والتباعد, والتي أملتها شروط قوى وجهات لا تضمر خيرا لهذا الوطن وأهله, جاءت لتعبر عن هواجس القلق التي بدأت إرهاصاته تلامس عقول وضمائر كل الغيورين على مستقبل هذا الوطن, وهي لذلك حَرية بأن تلقى تجاوبا رسميا وشعبيا ونخبويا أكبر, بدلا من الصمت وعدم الاكتراث وحتى التسقيط أحيانا من قبل البعض, بحيث يصبح الجميع أمام مسئولياته دون نكوص أو تهَرب أو تخندق عند حدود المصالح والطوائف والمواقع والعشائر على حساب الوطن ومصالحه العليا, التي كم اقسمنا مراراً وتكراراً على صيانتها, إبعادا لهذا الوطن عن ما ينتابه من منغصات وقلاقل نعلم أنه لن تحلها تلك الاثارات غير المسؤولة أو المناكفات المرتجلة وغير الناضجة, فهذا الوطن سيبقى لنا جميعا فلنحتضنه برفق ومحبة, وأولى بمن هم في مواقع القرار والمسئولية ورجاحة العقل أن يبرهنوا على عدم العودة به مجددا بعد أن تجاوزنا معا حواجز الخوف والقهر والتشظي, التي لا يريد عاقل أن نعود إليها أو أن نجر إلى تخومها… تلك كانت مضامين دعوة التقدمي التاريخية للحوار ووقف تدهور أوضاعنا الداخلية, في وقت عزت فيه الدعوات الصادقة وتعالت فيه نزوات الطارئين المرضى ونزق المتآمرين الذين استهواهم حرق الأخضر واليابس على أرض وطننا … فهل هناك من يسمع ؟!

 
الأيام 18 فبراير 2009