المنشور

لا حَظَتْ بِرْجَيلْهَا


في مطلع السبعينات تعرفت عليه، كان شابا متحمسا وواعدا وممتلئا رغبة في نشر التنوير والتغيير, وأنيقا وجذابا ومختلفا ولا يشبه أقرانه في تلك الأوقات لا شكلا ولا مضمونا ويتجلى الذوق والفن والكياسة في كل سكناته وكلماته, وشاءت الصدف ان يأتي إلى مدرستنا الثانوية محاضرا, فبهر الطالبات والمدرسات بذوقه ورقته وحسن معاملته للنساء. كانت هيئته تذكر بالشخصيات الغربية التي كنا نراها في الأفلام, طاقة إبداع وتمكن وحيوية ونشاط.

عندما أصبحت صحفية حرصت على إجراء لقاء معه, تبدد الإعجاب منذ أول وهلة عندما أحجم عن الإجابة على أسئلة عديدة, قال: رجاء لا تورطينني, ولا تدفعيني للإجابة على أسئلة محرجة قد تحرف مساري المهني وتخرب مستقبلي الوظيفي, كيف ؟ قلت له: فقال: أنا أهيئ نفسي لمنصب كبير, ولا أود أن تقف هذه التصريحات الصحفية في المواضيع الحساسة عقبة في طريقي.

منذ ذلك الوقت تحول المثقف إلى عبده مشتاق, وعبده مشتاق لمن لا يعرف هو ذلك الإنسان الذي ينتظر المنصب الحكومي الكبير او الحقيبة الوزارية, الاسم كما سبق وأشرت هو من ابتكار الصحافة المصرية, والمتعارف عليه سواء في مصر او في غيرها من الدول العربية, ان الذي ينال الحظوة فيها ليس بالضرورة من أهل الاختصاص او الكفاءة إنما هناك معايير وشروط أخرى كثيرة ومتغيرة, الثابت فيها هو عنصر الولاء, لذا يضطر كل «عبده مشتاق» للتخلي عن كل قناعاته وأفكاره ومبادئه السابقة ويسلك في حياته طريقا واحدا لا يحيد عنه قيد أنملة, انصرف زميلنا عن الثقافة وعن الأدب والشعر والفن وكرس نفسه «عبده مشتاق», ومضت أكثر من عشرين عاما وهو ينتظر دون جدوى, تمزق بين طريقين لا يلتقيان, الطريق السابق الذي غادره والطريق الجديد الذي لا يبدو انه سيوصله إلى شيء, يخامره حنين بالعودة إلى نفسه والى موقعه الأساس والأصلي كي ينجز شيئا لنفسه ولتاريخه الشخصي لكن الأمل في المنصب الجديد يعاوده, لماذا اخفق في كسب ود الحكومة ؟ لا يدري, ثمة سر استعصى على فهمه, هو يعلم بداهة ان الحكومة العربية في كل الأرض العربية لا تعطي قبل أن تأخذ, «افعل شيئا لتنال رضاها» نصحه العارفون, لم تجد محاولات «الرزة» هنا وهناك, يعتصره الندم على مشروعه الثقافي المجهض والكتب النوعية المتخصصة التي كان ينوي تأليفها والتي أحجم عنها خشية ان يرد فيها ما قد يفهم او يفسر عكسها فتضيع جهوده وتخفق مساعيه, وأما الأنشطة الاجتماعية والثقافية والسياسية التي كانت تستدعي حضوره وتواجده فقد اختلق الأعذار للهرب منها ومن عواقبها وما قد تحمله من مخاطر «لا احد يدري» قال في نفسه فقد تنفلت جملة من هنا او هناك فيصير شاهدا على ما يزعل الحكومة, «مالي انا وهذه المناسبات الخطرة, الجلسة في البيت وأمام التلفزيون أحسن واسلم قال في نفسه, حين مرض «عبده مشتاق», فسر مرضه بمرض الانتظار الخائب, لكن, توقع الناس ان ينال الشفقة والتعاطف من باب الإنسانية ليس الا, اشتد مرضه وما بارح موقعه كعبده مشتاق, لم ييأس ولم يتغير فما عاد في العمر متسع للمراجعة او التغيير, غاب عبده مشتاق عن الساحة بينما كان يتهيأ لسماع خبر جديد يليق بانتظاره الطويل, عبده مشتاق تكرس في أذهان الناس بعد وفاته بتلك المرأة التي خسرت زوجها القديم ولم تنل العريس الجديد «لا حظت برجيلها ولا خذت سيد علي» ، إنني لا زلت أتذكر عبارته «رجاء لا تورطيني», قد كان منذ ذلك اليوم في ورطة!.



الأيام 14 فبراير 2009