المنشور

الـ “بي.بي.سي”.. تاريخ من الحرب النفسية

شاءت المصادفة الزمنية التي لا تخلو من مغزى عميق ودلالات سياسية تاريخية أن يأتي موقف شبكة هيئة الاذاعة والتلفزيون البريطانية المعروفة اختصارا بـ الـ”بي.بي.سي” برفضها الحازم المتعنت لبث نداءات لجنة الطوارئ الخاصة المعروفة اختصارا بـ “دي.اي.سي” لجمع الأموال لمساعدة منكوبي المجازر الصهيونية الفلسطينيين في قطاع غزة.. نقول شاءت هذه المصادفة الساخرة ان يأتي موقف هذه الهيئة متزامنا بالضبط مع غداة احتفالاتها بمرور 70 عاما على انشاء القسم العربي فيها، والذي جاء كما نعلم عشية الحرب العالمية الثانية.
فكأنما هذا الموقف الفاضح في تحيزه امام كل العالم الحر الشريف، وليس امام العالم العربي فحسب، جاء تتويجا ورمزا لخبرة سبعة عقود متصلة من ممارسة الحرب النفسية الذكية والنهج الاعلامي المريب الذي دأبت عليه اذاعة لندن العربية، إذ ظلت طوال هذا التاريخ الطويل منذ تأسيسها عام 1938 اكثر الاذاعات الاجنبية العربية كفاءة في فنون الدعاية الاعلامية المخاتلة المخططة والحرب النفسية ضد العرب، على نحو لم تستطع ان تجاريها فيه اذاعات عربية لدول كبرى اخرى كالولايات المتحدة، والاتحاد السوفيتي السابق، وايطاليا، والمانيا، وفرنسا، وغيرها، حيث كانت تتلاعب بالمادة الاعلامية والصياغة الخبرية بطريقة تبدو حيادية موضوعية لكن لا تخلو من الدس الذكي أو التحيز المخاتل غير المكشوف في الكثير من الاحداث المرتبطة بالمنطقة العربية وذلك منذ انشائها عام .1938
وكانت اذاعة الـ “بي.بي.سي” العربية خلال عقدي المد الوطني والقومي في خمسينيات وستينيات القرن الماضي اكثر فترة من فترات تورطها المكشوف في شن الحرب النفسية والدعاية السياسية لخدمة السياسات والمصالح البريطانية في الشرق الأوسط، وهي الحرب التي برعت الـ “بي.بي.سي” على التخطيط الدعائي الاعلامي لها بكفاءة وفق أسس مدروسة وذكية بحيث تجذب المستمعين العرب وتحاول تزييف وعيهم السياسي ومعلوماتهم عن حقائق أحداث المنطقة وفق جرعات مدروسة ومحسوبة في كل حدث أو خبر مبثوث ليمكن تمريره وتصديقه لدى المستمع العادي، او حتى لدى المستمع المثقف الذي يفتقد وعيا سياسيا معمقا قادرا على التمييز والتمحيص في اكتشاف تحوير المادة الخبرية او الاعلامية المتعلقة بأحداث المنطقة وفق ضوابط محسوبة ومقننة يعكف على اعادة مونتاجها ان صح القول مطبخ صياغة الأخبار والتحليل السياسي داخل الهيئة الذي يشرف عليه البريطانيون الانجليز ويوزع بعدئذ على كل اقسام الهيئة التي تذيع ترجمته بعدد كبير من اللغات الاجنبية ومنها العربية.
وتمكنت اذاعة القسم العربي من استقطاب اعداد هائلة من المستمعين العرب مستفيدة في ذلك من التخلف الاعلامي لكل الاذاعات العربية التي ظلت تسيطر على مجملها الحكومات العربية، سواء خلال الفترة الاستعمارية أم بعد قيام الدول العربية المستقلة الحديثة، وكانت مواد الاذاعة المتنوعة المشوقة في السياسة والثقافة والفن والادب والرياضة من عوامل جذب المستمعين العرب، ناهيك عن الاداء الرفيع المحترف الذي يتميز به عادة مذيعوها العرب مقارنة بأداء مذيعي الاذاعات العربية، ناهيك عن سرعتها القياسية في بث اخبار الاحداث المهمة في المنطقة والعالم على نحو لا تضاهيها فيه الاذاعات العربية الرسمية، كل ذلك كان من عوامل جذب المستمعين العرب.
لكن الـ “بي.بي.سي” أخذت تفتقد تدريجيا بريقها الذهبي لدى المستمعين العرب منذ نحو عقدين وبخاصة مع تغيير ورحيل واستقالة العديد من الكفاءات العربية الشامية والعراقية منها، والأهم من ذلك مع ظهور عصر الفضائيات وتراجع اهتمام المستمعين العرب بالإقبال على سماع الاذاعات حتى بالرغم من استحداثها فضائية عربية، ومع ذلك فانها لم تبدل سواء من خلال الاذاعة او الفضائية الجديدة سياساتها المنحازة لاسرائيل على نحو مخاتل يتلبس الحياد والموضوعية منذ انشائها. ولكي نعرف الجذور التاريخية لظروف ودوافع انشائها والنهج الاعلامي الذي تم ارساؤه منذ ذلك التاريخ ولم يتبدل في الجوهر حتى الآن، نشير الى ان “هنا لندن” أو الـ “بي.بي.سي” من اوائل الاذاعات العربية التي اخذت توجه بثها الى المنطقة قبل انشاء معظم اذاعات البلدان العربية نفسها، وكان ذلك عام .1938 وجاء هذا المشروع الاعلامي البريطاني على خلفية التنافس الاستعماري، بين بريطانيا من جهة وفرنسا وايطاليا كل على حدة من جهة اخرى، على تعزيز وتقاسم مناطق النفوذ في المنطقة العربية، فلما كان الايطاليون هم أول من بث باللغة العربية اذاعيا، وكان ذلك عام 1932م فقد شكل نجاح هذه الاذاعة وما تبثه من دعايات نازية بعدئذ قلقا للبريطانيين فقرروا بدورهم فتح قسمهم العربي بهيئة الاذاعة البريطانية عام 1938م لتسخيره في خدمة الدعاية البريطانية في مناطق مستعمراتهم ونفوذهم في الشرق الاوسط، وعلى الأخص في مصر وفلسطين والعراق والخليج وجنوب اليمن. هذا على الرغم من ان أجهزة الراديو كانت محدودة في كل هذه المناطق خلال سنوات من انطلاقة البث، وحيث كانت الامية تناهز الـ 90% في معظم هذه البلدان. وهكذا فقد جاء إنشاء القسم العربي لأغراض سياسية بحتة تتمثل باختصار شديد بتوظيف هذه الاذاعة العربية في خدمة المصالح الاستعمارية للسيطرة على عقول ابناء مستعمراتها العربية بما يخدم ويؤبد وجودها في المنطقة، وبما يخدم تلك المصالح.
ومن المؤسف حقا انه في الوقت الذي يستنكر فيه العديد من الشخصيات والمؤسسات الجامعية والسياسية والمدنية البريطانية موقف الـ”بي.بي.سي” من منكوبي المذابح الصهيونية البشعة في غزة، ومن هذه الشخصيات المستنكرة عميد كلية الصحافة في جامعة “سيتي” ادريان مونك، وفي الوقت الذي وافقت فيه أيضا قنوات تلفزيونية بريطانية عديدة مستقلة لم يعرف عنها وقوفها الى جانب القضايا العربية على بث نداءات اغاثة منكوبي غزة، فإننا لم نسمع من أي كوادر الاذاعة والتلفزيون العرب في القسم العربي للهيئة أي موقف جريء شجاع فرديا او جماعيا، للاحتجاج ولو بلغة ملطفة وعتابية لهذا الموقف الانحيازي السافر لاسرائيل ضد ضحايا جرائمها الابادية في غزة، لا بل من المؤسف حقا ان يسخر الاستاذ حسام السكري، مدير القسم العربي نفسه في خدمة ترديد مبررات المدير الرئيسي العام للهيئة الانجليزي الجنسية بدعوى “الحياد” المزعوم او “الحيادية الاعلامية” بدلا من ان يذكر، السكري، على الاقل انه يتحدث بصفته مسؤولا رسميا عن القسم في الهيئة وليس بصفته الشخصية.

صحيفة اخبار الخليج
11 فبراير 2009