المنشور

العلاقات الاقتصادية بين روسيا والخليج في عالم متغير

 

 


عندما يجري الحديث عن العلاقات الاقتصادية بين روسيا والخليج تستحضر الذاكرة ذلك الإرث الغني
في تاريخ التعاون الاقتصادي والتجاري بين الاتحاد السوفييتي السابق وعدد من الدول العربية
كمصر وسوريا
والعراق واليمن والجزائر وليبيا والصومال وغيرها،
خصوصا في الفترة منذ النصف الثاني من خمسينات وحتى النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي.


 
العلاقات الاقتصادية بين روسيا والخليج في عالم متغير
ندوة في جمعية الاقتصاديين البحرينية
20 يناير 2009


يلقيها : عبد الجليل النعيمي

رئيس اللجنة الاقتصادية في المنبر الديمقراطي التقدمي، عضو جمعية الاقتصاديين البحرينية 
  
 


عندما يجري الحديث عن العلاقات الاقتصادية بين روسيا والخليج تستحضر الذاكرة ذلك الإرث الغني في تاريخ التعاون الاقتصادي والتجاري بين الاتحاد السوفييتي السابق وعدد من الدول العربية كمصر وسوريا والعراق واليمن والجزائر وليبيا والصومال وغيرها، خصوصا في الفترة منذ النصف الثاني من خمسينات وحتى النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي. وقد تجسد ذلك التعاون في مشاريع ضخمة أصبحت من معالم البناء الاقتصادي لهذه البلدان كالسدود ومحطات توليد الطاقة الكهربائية وتعزيز القدرات الدفاعية والصناعة العسكرية وأبحاث الفضاء وبناء شبكات الطرق والجسور ومشاريع الزراعة وصيد الأسماك والصناعات الغذائية والخفيفة الأخرى والمستشفيات والجامعات وإعداد الكوادر الوطنية في مختلف التخصصات الاقتصادية والاجتماعية.

ومنذ ذلك الوقت تغيرت مياه كثيرة. فعلى تلك الضفة، تقلص الاتحاد السوفييتي إلى روسيا، وهنا، على العكس، اتسعت الرقعة الجغرافية لتشمل بلدان مجلس التعاون الخليجي التي لم يكن لها مكان في العلاقات السابقة مع الاتحاد السوفييتي والتي سنركز عليها في حديثنا اليوم.
الموقع الجيو اقتصادي والجيو سياسي لروسيا ضَعُفَ إلى حد كبير على إثر تفكك الاتحاد السوفييتي. قَلّت كثيرا مخارج روسيا على الطرق البحرية الدولية بعد أن حُرمت من أكثر من عشر موانئ موزعة على البلطيق وأوكرانيا وجورجيا وأذربيجان. تراجعت حدودها مع البلدان الأوربية إلى داخل عمق القارة شرقا. وأصبحت غلبة طابع اليابسة على موقعها وحدودها تملي ضرورة البحث عن مخارج جديدة إلى الأسواق العالمية وإنشاء موانئ جديدة على الخليج الفنلندي وفي شمال القسم الأوربي من روسيا وفي منطقة الأزوف – البحر الأسود. الظروف التي استجدت أصبحت تتطلب إيلاء اهتمام أكبر نحو تحسين طرق نقل البضائع المصدرة التي تطغى فيها مواد الطاقة والمحروقات، موارد الخامات الطبيعية الأخرى وكذلك المواد والمنتجات التحويلية وشبه المصنعة. وبعد أن كان الاتحاد السوفييتي إحدى الدولتين الأعظم بقيت روسيا دولة عظمى وذات شأن متزايد في الاقتصاد والسياسة والقدرة العسكرية الدولية. وبمساحتها التي تبلغ 17.1 مليون كلم2 تعتبر واحدة من أكبر بلدان العالم. وهي تزيد على مساحة الدول العربية مجتمعة (14.5 مليون كلم2)، ومساحة كل من الصين والولايات المتحدة وكندا والبرازيل،. وتمتد حدودها على طول 58.5 ألف كلم، ثلثاها بحرية، والبقية برية تحاذي 14 بلدا. وتنبسط روسيا على رقعة جغرافية هامة من منطقة أوروآسيا ( ¼ في أوروبا و¾ في آسيا). وهي قريبة من ثلاث مناطق جيوستراتيجية مضطربة عسكريا وسياسيا باستمرار : الشرق الأوسط، جنوب غرب آسيا والقوقاز.[1]
 
 


البلد

المساحة (مليون كلم2)

روسيا

17.1

العالم العربي

14.5

الصين

9.6

الولايات المتحدة الأميركية

9.4

كندا

10

البرازيل

8.5


 
 


الحدود مع

     كلم   

الحدود مع

كلم

النرويج

196

أوكرانيا

1270

فنلندا

1269

جورجيا

250

استونيا

438

أذربيجان

367

لاتفيا

250

كازاخستان

7200

لتوانيا

304

منغوليا

3005

بولندا

244

الصين

4300

بيلوروسيا

299

كوريا

17


 
ومن حيث عدد السكان (148 مليون نسمة) تعتبر روسيا السادسة عالميا، لكنها تقل عن نصف سكان البلدان العربية مجتمعة والبالغين 312.4 مليون نسمة.
وعلى أنقاض الاتحاد السوفييتي السابق نشأ بين روسيا والجوار في البلطيق (أستونيا، لاتفيا ولتوانيا)، وما وراء القوقاز ( جورجيا، أذربيجان وأرمينيا )، ووسط آسيا (كازاخستان، أوزباكستان، قرقيزيا وتركمينيا)، وبيلوروسيا، أوكرانيا ومولدوفا تشكيل سياسي اقتصادي جديد ومفتوح الطابع عرف باسم رابطة الدول المستقلة.

بفضل ارتفاع عائدات النفط والغاز تمكنت روسيا من مراكمة ثالث أكبر احتياطي نقدي ذهبي بعد الصين واليابان.  وتحت تأثيرات الأزمة العالمية الراهنة انخفضت الاحتياطات الروسية من الذهب والعملات الصعبة إلى ما قيمته 562.8 مليار$ في أواخر سبتمبر الماضي. ثم انخفضت بعد أقل من أسبوع من ذلك بمقدار 16.7 مليار$ [2]. واستمر هبوطها لتصل في 12 ديسمبر العام الماض إلى 435.4 مليار$ [3]. ويحدث ذلك لعدة أسباب أهمها انخفاض أسعار النفط وخروج بعض رؤوس الأموال من روسيا ومحاولة الحكومة دعم عملة الروبل الآخذة في الهبوط، إضافة إلى سعي الحكومة للإبقاء على مستويات دعم الخدمات الاجتماعية وللتخفيف من حدة ردود الأفعال الشعبية على الأزمة  [4]. لقد استوعبت الإدارة الروسية الحالية الدرس جيدا، حيث أن فترات انخفاض أسعار النفط في الثمانينات والتسعينات هيأت الظروف لسقوط إدارتين في الكرملين – ميخائيل غورباتشوف وبوريس يلتسين.
 
البلدان صاحبة أكبر احتياطات ذهبية نقدية
في نهاية يوليو 2008 [5]


البلد

الاحتياطيات  ($)

الصين

1.75 ترليون

اليابان

1.01 ترليون

روسيا

588.3 مليار


 
وروسيا الآن في أول طريقها للشعور بوطأة الركود الاقتصادي. وقد هبط معدل النمو الاقتصادي الذي بلغ 8% في بداية عام 2008 لتدخل في تباطؤ فعلي. وفي نوفمبر الماضي سجلت الميزانية الروسية أول عجز نتيجة انخفاض أسعار النفط وتراجع الإنتاج الصناعي. وفي ذات الوقت خفضت وكالة S&P التصنيف السيادي لروسيا لأول مرة خلال العشر سنوات الأخيرة.
ومع ذلك تحتفظ روسيا بمكان فوق الوسط بين دول مجموعة العشرين من حيث الناتج المحلي الإجمالي الذي بـ 3.7 مرات مثيله في السعودية- الدولة الند له في إنتاج النفط. واستطاعت روسيا أن تنخفض باستمرار نسبة الدين إلى الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي من 42.1 إلى 14.2% في الفترة ما بين 2002 و 2005.
  
الناتج الإجمالي المحلي لعدد من دول مجموعة G20  للعام 2006  [6]
 



البلد


الناتج المحلي الإجمالي

(ترليون $)


البلد


الناتج المحلي الإجمالي

(ترليون $)

الولايات المتحدة

13.48

فرنسا

2.05

الصين

6.99

البرازيل

1.86

اليابان

4.5

إيطاليا

1.79

الهند

2.98

المكسيك

1.35

ألمانيا

2.81

كندا

1.27        

بريطانيا

2.14

كوريا الجنوبية

1.2

روسيا

2.09

السعودية

0.565


 
 
 
الدين الحكومي الروسي / الناتج المحلي الإجمالي (%) [7]


السنة

2002

2003

2004

2005

%

42.1

31.6

23.2

14.2


  
الشبه  بين الاقتصاد الروسي والخليجي

من خلال ميزان إنتاج واستهلاك النفط والغاز تتبين نقاط قوة وضعف هذه القوة العظمى وأوجه الشبه والاختلاف مع الاقتصاد الخليجي. في عام 2005 بلغت حصة روسيا من الإنتاج العالمي من النفط والغاز حوالي 12.4% و 26.4% على التوالي[8]. حصة بلدان الخليج 22,8 % و 7,1 % على التوالي، وهي أقل من حصتها في الاحتياطي العالمي الثابت. ومن المتوقع أن تصعد الطاقة الإنتاجية لدول الخليج بنسبة 72 % حتى عام 2030[9].

الاقتصاد الروسي يستهلك ثلثي المستخرج من النفط والغاز محليا. وتستهلك روسيا من الغاز سنويا ما يزيد على استهلاك اليابان، بريطانيا، ألمانيا، فرنسا وإيطاليا مجتمعة، رغم أن حجم الناتج الإجمالي المحلي لهذه البلدان الخمس يفوق مثيله الروسي 13 ضعفا[10]. وفي الوقت نفسه فإن الإصلاحات التي أدخلها الرئيس بوتين تداركت ما أحدثته “إصلاحات” سنوات التسعينات فأدت إلى ارتفاع ملحوظ في معدلات النمو الاقتصادي ما يعني مزيدا من الاستهلاك الداخلي وتراجع في إمكانيات تصدير مواد الطاقة. تصدر روسيا النفط والغاز عن طريق الأنابيب بمعدل 2.9 مليون ب/ي و0.57 مليار م3/ي. وإذا ما احتسبنا أن احتياطات الغاز في منطقة الخليج تفوق الاحتياطات الروسية بأكثر من 80%، ويتوقع أن ينمو إنتاج الغاز الطبيعي الخليجي بنحو 200% حتى عام 2030، ليمثل نحو 46 % من الزيادة المتوقعة في العرض العالمي للغاز الطبيعي، فإنه يمكن التنبؤ بتطور عاصف لسوق الغاز المضغوط قياسا بالذي يضخ عبر الأنابيب. وهو منذ اليوم يشكل 30.4% من تجارة الغاز الدولية، تستحوذ بلدان الخليج على 24% منها[11].

بسبب طفرات أسعار النفط ارتفعت الزيادة في عائدات الصادرات النفطية لجميع الدول المصدرة للنفط بين 8 إلى  12% من الناتج الإجمالي المحلي[12]. لكن لهذا العامل أثره المتعاكس على اقتصاد كل من روسيا ودول الخليج. فرغم تزايد حصة الصادرات النفطية في إجمالي الصادرات الروسية من حيث القيمة، إلا أنها لا تبتعد عن النصف كثيرا ( 51.2%، 52.4%، 54.2%، 54.7% و 61.1% للأعوام من 2001 إلى 2005 على التوالي)[13]، وهي استغلت طفرات الأسعار في إعادة تمويل قطاعات النفط والغاز والطاقة والمجمع الصناعي العسكري والفضاء وتعزيز القاعدة العلمية التقنية في البلاد.  أما دول الخليج فعلى العكس، ازداد الاعتماد على الاستيراد بشكل ملحوظ، حيث ارتفع في السعودية من 38% إلى 95% من قيمة عائدات صادرات النفط والغاز بين عامي 1981 و2005[14]. وهكذا أصبحنا نشهد في بلدان الخليج معظم علائم “المرض الهولندي” : ارتفاع أسعار صادرات المواد الخام وزيادة تدفق العائدات النقدية، زيادة في إحلال السلع المستوردة على حساب المنتجة محليا، ضعف القدرة التنافسية للاقتصاد. على أن أحد علائم المرض الهولندي وهو ارتفاع قيمة العملة المحلية لم يحدث (فيما عدا الكويت بين عامي 2003- بداية 2008)، وذلك لارتباط هذه العملات بالدولار الأميركي.
ورغم أن روسيا قد رفعت إنتاجها النفطي إلى 9.236 مليون ب/ي في يونية 2006، بزيادة حوالي 46 ألف برميل على الإنتاج السعودي في إشارة إلى أنها الدولة الرائدة في ضمان أمن الطاقة عالميا، حيث تستطيع رفع الإنتاج إلى 9.9 مليون ب/ي عام 2007 [15]، إلا أن النفط الروسي صنف ( URALS) المستخرج من مناطق بشكيريا وتتارستان الإسلاميتين عالي الكبريت ولا يزال بعيدا عن مواصفات (BRENT)[16]. كما أن تكلفة استخراج برميل النفط في روسيا تبلغ 15 دولارا، بينما لا تزيد عن 5 دولارات في السعودية ودولة الإمارات[17]. وعليه فإن السعودية تستطيع أن تتحمل هبوطا دراميا لسعر النفط الذي يشكل كارثة للاقتصاد الروسي ( سعر الأساس المعتمد للنفط صنف ” URALS ” هو 27 د/ب لعام 2005[18].

المقارنات أعلاه تبين أنه رغم كون روسيا ومجلس التعاون الخليجي منتجين ومصدرين للغاز ولاعبين رئيسيين في سوقهما الدولية، إلا أنهما ليسا متنافسين متضادين، ولن يحل أحدهما محل الآخر في السوق. وللطرفين مصالح حيوية مشتركة في الحفاظ على أسعار النفط والغاز من التدهور في ظروف الأزمة الاقتصادية العالمية والتعامل مع هاتين الثروتين الناضبتين على المدى البعيد. وقد دفعت المصالح المشتركة بكل من روسيا والسعودية لإبرام اتفاقية تعاون في مجال النفط والغاز بينهما لمدة خمس سنوات أثناء زيارة الملك عبد الله، ولي عهد السعودية آنذاك، إلى موسكو عام 2003 بهدف التنسيق في الأسواق العالمية لصالح استقرار إمدادات النفط والحفاظ على أسعار النفط العادلة. وفي الآونة الأخيرة أصبحت فكرة انضمام روسيا لأوبك مطروحة على جدول الأعمال بقوة رغم اختلاف المواقف حولها في داخل روسيا. كما أن التنسيق بين روسيا وقطر وإيران والجزائر ودول أخرى جعل فكرة منظمة للغاز شبيهة بأوبك تتلمس طريقها إلى التحقق.

لا يمكن وصف العلاقات الاقتصادية التجارية بين روسيا والعالم العربي بالمتطورة. فمع أن الحجم المطلق للصادرات الروسية إلى العالم العربي بين عامي 2002 و 2005 قد تضاعف تقريبا من حوالي 2.453 مليار إلى 4.201 مليار دولار، إلا أن ثقلها النسبي في إجمالي الصادرات الروسية قد تراجع من 2.29% إلى 1.72% لنفس العامين. ومع أن الصادرات العربية إلى روسيا قد تضاعفت أكثر من 3 مرات بين هذين العامين ( من 143 مليون إلى 429 مليون دولار)، إلا أنها متدنية جدا من حيث أرقامها المطلقة أو ثقلها النسبي في إجمالي الواردات الروسية (من 0.2% إلى 0.31% لذات الفترة)[19]. لكن حجم التبادل التجاري بين روسيا ودول مجلس التعاون الخليجي سجل في عام 2006 ارتفاعا، إذ بلغ قرابة 6 مليار دولار. وقد ارتفع حجم التبادل مع الإمارات من 820 مليار دولار عام 2006 ليصل إلى أكثر من مليار دولار عام 2007[20]. ووصل حجم الاستثمارات الإماراتية قيد التطوير في روسيا إلى 18 مليار دولار عام 2007 [21].

الاستثمارات الروسية في الإمارات سجلت خللا فاضحا لصالح العقارات والتجارة والفندقة والسياحة والشحن ما انعكس سلبا على المستثمرين مع الأزمة الحالية. فرغم أن المستثمرين الروس سجلوا نسبة 8% فقط من إجمالي ملاك العقارات الأجانب، إلا أن الروس ومواطني بلدان الاتحاد السوفييتي السابق شكلوا 70% من الذين اشتروا العقارات الفاخرة [22]. أغراهم في ذلك أن معدل الربح في هذا القطاع بلغ 25-30% في دبي مقارنة بـ 25% في روسيا و 15% في أوروبا [23].


عوائق على طريق التعاون

يصطدم التعاون التجاري الاقتصادي الروسي الخليجي بعوامل معوقة كثيرة، موضوعية وذاتية. من أهم هذه العوامل النفوذ المتعمق والمزمن للدول الغربية، وخصوصا الولايات المتحدة التي تعتبر الخليج منطقة مصالح حيوية تمس أمنها القومي، قلة الخبرة في التعامل بين الطرفين والاختلاف في أساليب وطرق الممارسات الاقتصادية، غياب أو ضعف المؤسسات التمويلية لمختلف أوجه التعاون، نشاط اللوبي الصهيوني الذي أصبح متنفذا في روسيا خلال الفترة الانتقالية حتى عهد الرئيس بوتين، والذي يملك تنظيما شبكيا عالي الدقة ويعرف جيدا آليات تعطيل أي مشروع روسي – خليجي أو عربي مشترك أو يضع أي مشروع عربي في روسيا في خانة الإرهاب أو غسيل الأموال. كما أن الحاجز اللغوي لا يزال يشكل عائقا جديا أمام التفاهم أثناء الاتصالات والاجتماعات والمؤتمرات وإتمام الصفقات. ولا تزال مواصفات البضائع من حيث الجودة والتصميم تضعف القدرة التنافسية لبعض السلع الروسية. ويقلل ارتفاع تكاليف الإنتاج والمناولة والشحن والنقل والتأمين، من أرباح المؤسسات. أضف إلى ذلك الحذر الشديد من قبل بلدان الخليج على خلفية انعدام الثقة بين الجانبين كبقايا الماضي. ومن أهم العوامل المعوقة بقايا عدم الاستقرار الذي شهده الاقتصاد الروسي فيما بين النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي حتى السنوات الأولى من العقد الحالي والتي خلفت شبكة معقدة من المعاملات البيروقراطية والوساطات وقضاء لا يشكل ضمانة وطيدة.

في مواجهة هذه الظواهر الأخيرة تتمتع المؤسسات الاقتصادية الغربية بحماية دولها، حيث تمتلك حكوماتها والمؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية ما يسمى بنظام “الخط الساخن” مع الرئاسة الروسية لحل المشاكل الاقتصادية والمنازعات في إطار حماية الاستثمارات الأجنبية. أما الدول الخليجية فلا تمتلك هذا “الخط الساخن” مع مؤسسة الرئاسة في حين تتعرض لتعقيد أشد وتمييز في المعاملات.

على أن كل تلك العوائق يمكن أن تتراجع أمام عاملين إيجابيين قويين : أولا، توافر الإرادة السياسية لدى القيادات الروسية والخليجية على السواء. وكما شهدنا في السنوات الأخيرة فإن قرارا سياسيا من قبل السعودية أو الإمارات أو قطر أو البحرين يمكن أن يطلق المجال للتعاون في مجالات النفط والغاز والطاقة، بما في ذلك النووية، والصناعة العسكرية. وثانيا، أن هذه المجالات بالذات تشكل العمود الفقري في الحياة الاقتصادية والقدرات الدفاعية للجانبين الروسي والخليجي وبمثابة القاطرة للتعاون الاقتصادي في كل المجالات الأخرى. وأي نشاط اقتصادي مرتبط بهذه المجالات يمكن أن يحظى بدعم وضمانات من قبل الدولة هنا وهناك.

ويبدو أن القرار السياسي بهذا الصدد أصبح ناضجا، وذلك ما يوحي به وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل في ختام زيارة الرئيس بوتين الجوابية للسعودية : ” لا ترى المملكة أية عوائق على طريق التعاون مع روسيا في كل المجالات، بما في ذلك مجالات الأسلحة والطاقة النووية”. وأصبحت الإمارات، التي وقعت اتفاقية للتعاون التجاري والاقتصادي والفني مع روسيا منذ زمن مبكر في 2 يناير 1990، تتقدم دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى بحجم العلاقات التجارية مع روسيا والتي ازدادت في السنوات الأربع الأخيرة بنحو مرتين ونصف[24]. وقد وقعت مذكرة تفاهم بين وكالة الفضاء الفيدرالية الروسية والمنظمة الإماراتية للعلوم والتكنولوجيات المتقدمة حول التعاون في مجال استخدام الفضاء للأغراض السلمية. ويتجه البلدان إلى الوصول لمنع الازدواج الضريبي، كما تسعى روسيا إلى اتفاق مماثل مع كافة دول التعاون.

في مجال النفط والغاز

يمكن اليوم الحديث عن نتائج ملموسة. فقد فازت شركة لوك أويل أوفرسيز عام 2004 بمناقصة للتنقيب والأعمال اللاحقة لمجمع (آ) لمكامن الغاز في صحراء الربع بالاشتراك مع شركة أرامكو. وأصبحت شركة ستروي ترانس غاز الروسية الكبرى تملك الحق في العمل في السوق السعودية للنفط والغاز. وهناك حوالي عشر شركات روسية أخرى عاملة في مجال صناعة النفط والغاز والأعمال الهندسية تعمل على توطيد مواقعها في السعودية[25].وتم التوقيع على مذكرة تفاهم حول التعاون بين قطر للبترول وشركة ‘’لوك أويل’’ الروسية القابضة.

إمكانيات التعاون المصرفي وسوق المال

بما أن المال هو الشريان الحيوي للمشاريع الاستراتيجية بين الحكومات أو الأصغر بين رجال الأعمال، فقد نشطت روسيا ودول الخليج في هذا الاتجاه. وبعد تسوية مسألة الديون السابقة بين روسيا وكل من الكويت والإمارات عن طريق صادرات تقنيات عسكرية وغير عسكرية، طرح عدد من المبادرات لتأسيس صندوق استثماري للتبادل التجاري المشترك برأسمال 500 مليون دولار لتشجيع الاستثمار بين روسيا والسعودية. ودعا المنتدى السابع لمجلس الأعمال العربي الروسي (البحرين، مايو 2007) إلى تأسيس مصرف عربي روسي مشترك أبدت البحرين رغبتها لاستضافته. كما أعلن الرغبة لإنشاء مصرف روسي في البحرين أثناء زيارة ملك البحرين لموسكو في ديسمبر الماضي. وفي الأوضاع الاقتصادية العالمية الراهنة يمثل أمام روسيا وبلدان التعاون الخليجي على السواء السؤال الهام : أين يمكن الاستثمار؟ لفترة طويلة ظلت الأسواق الغربية أو ما كان يطلق عليها بالأسواق الناشئة أسواقا جاذبة. لكن، وكما بينت تجربة نصف العام الأخير فإن مشاكل كبرى أخذت تظهر هناك وأصبح أمر العائد أو بقاء وتسييل الاستثمارات غير مضمون. ومفهوم في ظروف اليوم أن كثيرا من البلدان كالصين وروسيا تفكر في أن تساعد نفسها بنفسها، وتستثمر مواردها المالية المتراكمة في عام 2008 في داخل بلدانها لدعم اقتصادها الوطني. وهكذا يجب أن تفعل دول الخليج. لكنه، وبعد وقت قد يكون قريبا، وبعد أن ينجلي غبار الوضع الحالي، وتسوية بعض المشاكل الداخلية، سميثل سؤال : أين يمكن استثمار المال. ما يطلق عليها بالأسواق الناشئة ستبدأ بالتماثل للشفاء أسرع من الأسواق الغربية وتصبح أكثر جاذبية للاستثمار. ولذلك فإن البنية التحتية للبورصات التي تم إنشاؤها في روسيا وبلدان الخليج مطلوبة الآن وفي المستقبل بشكل أكبر. ويبدو أن روسيا تحث الخطى الآن لإنجاز تلك الخطة من الإجراءات التي كان قد تم إعدادها قبل الأزمة. أي، خطة إنشاء مركز مالي عالمي. وسيعني ذلك استعدادا لاستقبال موجة الاستثمارات الجديدة.
وبعد التجربة المريرة التي خاضها الاقتصاد العالمي مع الدولار باعتباره عملة احتياط عالمية فقد بدأت روسيا تعد لتحرير وتعويم عملة الروبل استعدادا لتحولها إلى عملة احتياط عالمية. والخطوة القادمة المهمة على هذا الطريق، والتي صدرت التعليمات بشأنها، هي إبرام عقود إمدادات المواد الخام والمعدات والسلع والخدمات بالعملة الروسية. الخطوة الأخرى هي وجود أسواق سائلة وخصوصا نقدية وائتمانية معبر عنها بالروبل. لكن هذه الخطوة لا تزال تنتظر الكثير من العمل. فلحد الآن لا أسواق الدين الحكومي ولا سوق دين الشركات ولا سوق النقد لا تسمح بتحقيق معاملات بأحجام كبيرة.

إن أمام دول الخليج، وهي على طريق إعلان الوحدة النقدية، فرصة مواكبة ودراسة التحولات الروسية على الصعيدين النقدي وأسواق المال لتقرير ما ستفعله في عالم سريع التغير. كذلك أمام روسيا فرص الاستفادة من نظم الخليج المصرفية المتطورة، بما في ذلك معهد البحرين للدراسات المصرفية وتجربة البحرين مع المصارف الإسلامية التي تنوي روسيا التوجه نحوها أيضا.

التعاون العسكري

منذ النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي، حيث كان يفغيني بريماكوف وزيرا للخارجية عادت الروح إلى التعاون العسكري مع البلدان العربية. وفيما بين عامي 1997 – 2000 أصبحت حصة روسيا من صادرات السلاح إلى بلدان الشرق والأوسط وشمال أفريقيا تعادل الثلث، وبلغت قيمتها 20 مليار دولار. واستطاعت روسيا أن تدخل سوق السلاح الخليجي منذ وقت مبكر من التسعينات. في الفترة ما بين 1992 – 1996 زودت الإمارات بـ 350 مقاتلة مشاة من طراز ب م ب – 3، و 76 أخرى للكويت. وقد رأى خبراء أجانب أن الخيار وقع عليها بسبب مواصفاتها التقنية – التكتيكية العالية التطور وسعرها المنخفض ( 800 ألف $ للواحدة)[26].
وتوطدت مواقع الروس في سوق السعودية التي صنفت على أنها أكبر مستورد للسلاح عام 2007 ( 10.6 مليار$). تم تزويد السعودية بحوامات كا – 226 بقيمة 25 مليون $، وتجري المباحثات لبيعها 150 دبابة طراز ت – 90 بقيمة مليار$ ، وكذلك ب م ب -3. وتبدي اهتماما بالصواريخ المضادة للطائرات طراز ز ر ك س- 300 و س- 400 “تريؤمف”. ويعمل السعوديون الآن بمساعدة الخبراء الروس على إيجاد نظام تكاملي واحد بين طائرات “ألماز”، “صواريخ “تريؤمف” وصواريخ “باتريوت” الأميركية[27].
 
الطريق البحري من قزوين إلى الخليج

صيف عام 2007 أقر مجلس الأمن القومي الروسي خطة دعم مشروع شق قناة في إيران تربط بين بحر قزوين والخليج. وكانت الولايات المتحدة عام 1962 في زمن الشاه. لأول مرة في تاريخ الاقتصاد العالمي سيؤمن هذا الشريان لروسيا وعدد من الدول طريقا مباشرا، هو الأقصر، إلى مياه الخليج وبحر العرب والمحيط الهندي دون المرور بقناة السويس، وكذلك مضائق البحر الأسود وبحر إيجه، حيث تشدد تركيا من جانب واحد أنظمتها على عبور الناقلات. هذه القناة التي سيستغرق شقها أربعة أعوام ستخلق أيضا طلبا من الجانب الإيراني وغيره على التكنولوجيات الروسية في مجال النقل المائي لسنوات قادمة. البلدان التي أبدت اهتمامها آنذاك بهذا المشروع المسمى “شمال – جنوب” أربعة: روسيا، إيران، عمان والهند. لكن هذا المشروع يجب أن يعني لجميع البلدان الخليجية الكثير. وحسب بعض التقديرات فإن حركة الشحن على خط أوربا – قزوين – الخليج – المحيط الهندي وبالعكس ازدادت بين عامي 2006 – 2008  بمقدار الثلث عما كانت عليه في 1998- [28]1999.
 
العوامل الجيوسياسية

كما أن للعوامل غير الاقتصادية، الجيوسياسية، أثرها المسرع على التعاون الاقتصادي والتجاري. فبعد أن استعادت روسيا عافيتها الاقتصادية أخذت تتعامل مع العالم باستراتيجات جديدة وواضحة ترفض عالم القطب الأميركي الواحد. وطبيعي أن يرى الروس، كما الأميركيون والدول الكبرى الأخرى، أن منطقة الخليج هي الأكثر حساسية في مسألة توازن المصالح الدولية. وبدورها تدرك السعودية ودول خليجية أخرى أهمية إحداث شيئ من توازن المصالح الذي يتيح لها قدرة المناورة في علاقاتها الدولية. ولهذا جاءت زيارات بوتين لكل من السعودبة وقطر والإمارات في جولتي فبراير وسبتمبر 2007 وزيارة ملك البحرين لموسكو في ديسمبر 2008 وعقد المنتدى الاقتصادي البحريني في موسكو على هامش تلك الزيارة، وكذلك وتبادل إقامة المعارض والمؤتمرات الاقتصادية بين روسيا ومنطقة الخليج كمعرض “أرابيا – إكسبو” الذي أقيم في موسكو في 22 – 24 أكتوبر الماضي إضافة إلى الاتفاقات السابقة .

وفي هذا الصدد أشار جاك سابير، الاقتصادي البارز والخبير بالشؤون السوفييتية والروسية ورئيس مركز باريس للعلوم الاجتماعية أنه “بدأت تظهر ميول لدى البعض في المؤسسة السياسية السعودية للخروج من تحت عباءة النفوذ الأميركي”[29]، وأن هناك حاجة لدى الروس لاختبار ما إذا كانت تلك “مساع للقيام بلعبة خاصة ما مستقلة عن الولايات المتحدة” أم “أن ذلك نتاج قرار سياسي جدي وموزون”[30].

أثر العامل الديني

إذا كان العامل الديني معطلا في العلاقات السوفييتية والروسية – السعودية في السابق، خصوصا أثناء مناهضة السعودية للوجود السوفييتي في أفغانستان، ثم مناصرتها الإسلاميين الشيشان، فإنه يلعب الآن دورا إيجابيا هاما في تعزيز هذه العلاقات[31]. فلقد تغير الوضع جذريا في أفغانستان. وبالنسبة للقضية الشيشانية أكد الملك عبد الله أثناء زيارته لموسكو عام 2003  أنها مسألة داخلية، “وأن حلها يجب أن يقوم “على أساس القوانين الروسية”[32].

أطر ومجالات التعاون الاقتصادي الممكنة

على خلفية تلك الاستراتيجيات السياسية بدأ منذ العقد الأخير في القرن الماضي ينشط التعاون بين وروسيا ودول الخليج في إطاري القطاع الخاص وقطاع الدولة. بينت التجربة، على مثال دبي الذي أوردناه أعلاه، أن تعاون ممثلي القطاع الخاص بين الطرفين غير قادر على تعزيز القدرات الاقتصادية للدول بسبب المجالات التي انصبت إليها رؤوس الأموال، وخصوصا العقار. غير أن التعاون القائم على أساس الاتفاقيات المبرمة بين الحكومة الروسية من جانب وحكومات بلدان مجلس التعاون من الجانب الآخر هي التي تعطي الضمانة لتعاون اقتصادي وفني عسكري ذو أفق استراتيجي ينعكس على واقع ومستقبل قدرات بلداننا. فالحديث يجري عن قطاعات ومشاريع ضخمة ذات آفاق استراتيجية، مثل : [33] 

-      تكرير النفط، إنتاج معدات للصناعات البتروكيماوية، وضمان أمن منشآت النفط والغاز،
-      المصارف والاسثمارات،
-      التكنولوجيات المتقدمة، بما في ذلك المعلوماتية،
-      غزو الفضاء،
-      الطاقة الذرية، الطاقة الشمسية، طاقة الرياح وإمدادات الطاقة،
-      صناعة الطيران وبناء الآلات والصناعات الإلكترونية،
-      التنقيب الجيولوجي، واستكشاف باطن الأرض من الفضاء،
-      تحلية مياه البحر، خزانات المياه، إمدادات المياه،
-      مد خطوط السكك الحديد،
-      تنظيف قاع الناقلات،
-      إعادة تصنيع مخلفات النفط،
-      البناء والتشييد.
 
 ومهما قيل من مآخذ في هذا الصدد فإن القطاع الخاص لا يستطيع أن يلعب دورا قياديا في تعاون اقتصادي بهذه الأبعاد الجدية. أكثر من ذلك فالواضح أنه بعد الأزمة العالمية الحالية ستكون الأسرع في الخروج منها هي البلدان التي تنهج طريق رأسمالية الدولة “state capitalism.”  مثل الصين، روسيا والهند، وكذلك كوريا الجنوبية، تايوان وسنغافورة في استمرار تنمية اقتصادها[34]. 
 
 
 
 

المصادر

[1] http://www.bestreferat.ru/referat-84267.html , 12.03.2007
 

[2]  وكالة أنباء نوفوستي، 9 أكتوبر 2008

[3]  مصرف روسيا المركزي، 12 دبسمبر 2008

[4] The Wall Street Journal, 19.12.2008

[5]  ”روسيسكايا غازييتا”، 25.07.2008 ، موسكو

[6] Source : IMF, 2007 values. Gross domestic product adjusted for purchasing power parity (PPP) – an identical basket of goods costs the same in each country.

[7] Kudrin’s Lectures, 2006. О денежно-кредитной политике в современных условиях

[8] http://arhive.pitersps.ru/index.php?IR=375  , 22.05.2006
 

[9]  Goldman Sachs, october 2007

[10] http://arhive.pitersps.ru/index.php?IR=375  , 22.05.2006  

[11]Goldman Sachs, october 2007

[12]  جامعة الدولة، مدرسة الاقتصاد العليا، موسكو،  http://new.hse.ru

[13]  نفس المصدر

[14] http://arhive.pitersps.ru/index.php?IR=375  , 22.05.2006   

[15]  الشرق الأوسط، 15 فبراير 2007

[16]  أنظر في ذلك : عبد الجليل النعيمي، صحيفة الوقت البحرينية، 30.10.2006

[17]  صحيفة كمرسانت – فلاست الروسية، 03.07.2006

[18]  المذكرة التفسيرية لميزانية روسيا الاتحادية، المادة  96 – 1.

[19]  الأرقام مستقاة من “الكتاب السنوي، اتجاهات التجارة الدولية، 2006” و كتيب : “المنتدى السابع لاجتماع مجلس الأعمال العربي  الروسي، مملكة البحرين، 21 – 22 مايو 2007، ص ص 7و9. 

[20] جريدة الرياض السعودية اليومية، 7 مايو 2008

[21]  نفس المصدر.

[22] http://www.russarabbc.ru/rusarab/detail.php?ID=1306

[23] http://www.russarabbc.ru/rusarab/detail.php?ID=1306
 

[24] http://ar.rian.ru/policy/arab/20070905/76879982.html  

[25]  المصدر رقم 18

[26] http://www.iimes.ru/rus/stat/2009/11-01-09.htm

[27] http://www.iimes.ru/rus/stat/2009/11-01-09.htm

[28]  ”الأعمال في روسيا”، ملحق “روسيسكايا غازييتا”، 22 أغسطس 2007

[29]  مقابلة أجرها راديو فرنسا الدولي RFI  مع جاك سابير، 15 فبراير 2007 

[30]  المصدر السابق

[31]  أنظر http://www.islam.ru/pressclub/analitika/saronat/

[32]  نفس المصدر

[33] ( أنظر في ذلك : مععهد الشرق الأوسط، موسكو ، http://www.iimes.ru/rus/stat/2008/02-12-08b.htm )

[34] Global Trends 2025:.A Transformed World, National Intelligence Council November 2008, p. vii