المنشور

إعادة تقييم التجربة السياسية

يجري السكوت على الماضي إلا من إنجازاته، وهذا أمر مشترك لكل القوى الاجتماعية والسياسية. يحبذون نشر تاريخ مضيء زاهي الألوان، والكل مع هذا يدرك أن ثمة أخطاءَ جسيمة، وتقديم الصورة الزاهية قد يصل حتى إلى التشويه وعرض صور كاريكارتيرية عن تاريخ المجتمع والقوى المختلفة. وهذا ما يدفع إلى أن كل إنسان يقدم صورة وردية عن نفسه، حتى لوكان بعيداً جداً عن هذه الصورة البطولية المتألقة الزائفة. وبطبيعة الحال لا يصحح أحدٌ هذه الصورة، ولكن لماذا وقعنا ونستمر في هذه الكوابيس إذا كان الجميع أبطالاً؟ تستمر هذه القوى السياسية بنشر الصور الوردية لأن هذه الصور تعكس التوحد الزائف، وإخفاء الأخطاء الكبيرة في تاريخها وتداخل المخطئين والسيئين والحرامية والانتهازيين بأبطال العمل الحقيقي التائهين والضائعين والصلبين في هذا العزف المشترك للفرقة الحماسية الوطنية. صخب الفرقة وحماسها الذي يصم الآذان يتناقض مع بعض العيون الزائغة وفلتات اللسان عن سوء بعض البقع الكبرى في الماضي، وهذا الجمود السياسي في كل شيء وعن كل شيء حقيقي، ليستمر الماضي كما كان الماضي، المسرح نفسه والأبطال أنفسهم، والمأساة نفسها! الجمع السياسي أو التيار أو سلطة التجمع وما شئت من أسماء لا تريد تبصراً نقدياً للماضي، وألسنة أحوالها دعونا من الماضي، والحاضر أهم والمستقبل أجدى. إنه رجل مريض مأزوم يعيش عقداً ولكنه خائف من الذهاب للطبيب المعالج. فيكفي بهذه الوحدة الموهومة التي يعيش فيها مع نفسه في بضع لحظات من اليوم المعيشي، يكفي أن يتوهم الصلابة والبقاء والصحة، وإنه ليس منقسماً ولا منفصماً، بل هو بطل كبير! يقوم بكتابة صفحات كثيرة عن نفسه وإنه قاوم وكافح المردة والشياطين وقاد المظلومين وفعل وفعل ما لم يفعله أحد. لكن الواقع الذي يعرفه آخرون بأنه ليس في هذه المكانة العالية، وأنه رجل له إيجابياته وله أخطاؤه، لكن الصورة الموضوعية هذه إما أن تـُزال تماماً ولا يستطيع أحدٌ أن ينطق بها، وإما أنها تصير مهموسة ومنتشرة في أمكنة كثيرة ولكن لا تصل إلى أسماع البطل! في بعض القوى السياسية هناك رفض للتمادي في هذه الصورة البطولية الزائفة خاصة إذا قاد (البطل) الجماعة إلى كوارث، فيصبح الانقسام هنا ضرورياً، لكن الانقسام لا يصل إلى محاكمات فكرية في الماضي والحاضر، وكيف أن التيار أو القوة الاجتماعية الكبيرة تشكلا في ظل الحماس البطولي وعبر الكثير من الادعاءات والتباهي بالحزب أو بالقبيلة أو بالطائفة المنصورة. فقد كانت الدنيا ظلاماً حتى ظهرت القبيلة – الحزب – الطائفة – الجماعة النورانية، ورفعت الشمسَ المنيرة فوق المسرح المعتم، وحينذاك بدأ التاريخ! من الممكن في هذا التاريخ أن تـُستحضر أسماء وتواريخ دقيقة، وتـُجلب وثائق وحيثيات، وتنهمر ذكرياتٌ عاطفية مريرة مليئة بالدموع والشجن والفرح الوامض، ولكن كل هذا من أجل صورة البطل الخالد؛ الحزب، الجماعة، الطائفة، القبيلة، وكيف صارت في هذا العلو. إن حالة الأمية الثقافية والفقر النظري هي من حماس جماهيري شعبي بسيط للحفاظ على مصالح تائهة في خضم العولمة والتحولات الرهيبة التي جعلت الغرباء والأجانب والفضائيات والاقتصاد البذخي والاقتصاد الشمولي تهيمن، وجعلت كلها الناس الغلابة مثل أعواد في نهر جارٍ جارف، يتمسكون بأي شيء من أجل البقاء في العيش. وحتى المصالح القوية لا بد لها من صورة موهومة بطولية، ولكن إلى أي حد هي قوية؟ وفي غمضة برميل نفطي وانتباهته تتدحرج قوى وعوالم. يستبدلون بالرمضاء النار، فهم بحاجة الى البطل لكي يحفظ وحدتهم الموهومة الراهنة، ويدافع عن حقوقهم، أو امتيازاتهم غير الصامدة للتاريخ. ولهذا حين تحدث العروضُ التاريخية الزائفة وتـُوضع أدلة ناقصة، وتواريخ مبتورة، هي كلها بغرض أن (تاريخنا) كان هو التاريخ البطولي الذي صنع المجد الراهن. أو يجري عرض انتقادي بسيط لتاريخ الجماعة المنصورة فلو أنها واصلت نهجها لتوصلت إلى انتصار كامل. كان أغلب هذا التاريخ للجماعة – للحزب – أخطاء فادحة، ولكن هذه الأخطاء الرهيبة تم محوها من الشريط الملون الزاهي، الذي تواكبهُ الموسيقى الحماسية المخدرة للعقول! ويذهب المخدرون لمواقع النزاع والحرب التقليدية وخنادق التباهي بالأمجاد ليواصلوا حروب داحس والغبراء التي تزيد الطين الوطني بلة أجنبية وسرقات عولمية وتناثر الثروة الشعبية شرقاً وغرباً. لا يستطيع كلٌ من هذه القوى الاجتماعية أن يقرأ التاريخ الحقيقي، فالصور الزائفة لها حراسها وعلاماتها التجارية وإعلامها وفضائياتها وفرقها الغنائية. لا تستطيع أن تغير شيئاً جوهرياً في أحوالها، تصير متحجرات، أما النقد السياسي فلا يستطيع أن يخترقها، وإذا طاف في جوقة الدراويش فهو ضائع ويبتر بقوة. لا توجد حريات عميقة ونظرات مستقبلية بعيدة المدى فليس ثمة كوادر شبابية جديدة يُسمح لها بالنشوء الحر، حتى لو كانت تريد مصلحة الجماعة – الطبقة، فلا يتم تشجيعها من قبل الديناصورات السياسية على الإبداع السياسي إلا إذا كان تطبيلاً. المراكز المهيمنة في كل هذه الكتل الكبيرة والصغيرة تعيش على الأكل اليومي وما دامت الخزائن معمرة بالملايين أو أن البطون شبعى بالخبز، أو أن الأموال تتدفق على أقطاب الفئات الوسطى، فلا شيء يدعو للنظر في المستقبل وكشف تاريخ الجماعة المليء بالأخطاء أو رؤية الطوابق السفلى للوزارات. من هنا فإن الأبطال هم المسيطرون على المسرح المتداعي، وتجد العديد من المسوخ فرصة فريدة لكي تتحدث عن عظمتها.

صحيفة اخبار الخليج
5 فبراير 2009