المنشور

أرض السواد: تكاثر الشخصيات

فيما استحوذت شخصياتُ الطبقةِ العليا على سرد الحراك التاريخي استحوذت الشخصياتُ الشعبية على سرد التجمد التاريخي. لقد رأينا كيف تابعَ السردُ الروائي شخصيات مثل: داود باشا والآغا عليوي والقنصل البريطاني (الباليوز) ريتش، ولكن لهذه الشخصيات الكبيرة توابع وذيول كثيرة، هي تكميل لصورتها السياسية ووجودِها الشخصي، فهناك فصولٌ حول ابنة دواد الكسيحة وكيف ظهرت بشكل غير طبيعي، وتلحقها شخصية (نائلة خاتون) وما جرى لها من تجربة شخصية خاصة بها ومع الطفلة المعوقة (محسنة)، ويغدو لذلك صلة واهية مع بؤرة الرواية العامة وهي بؤرة الصراع السياسي والنمو المدني لدولة العراق. وفي هذه التداعيات القصصية سنجد ان نائلة خاتون لها قصص عديدة: (تربت مثل داود، في سراي سليمان الكبير، وهي أكبر منه ببضع سنين، بعد أن تزوجت مرتين ولم تنجب، وقيل إنها خاوت واحداً من الملائكة وانصرفت إلى العبادة والصلاة)، ص239، ج 1). والأمر لا يختلف مع (نابي خاتون) أم الوالي السابق الذي قـُطع رأسه في حضنها، وظلت بين الصحو والجنون، حتى اختارت الرحيل إلى اسطنبول لتحاكم دواد باشا أمام السلطان لكنها تتوارى فجأة بين الأخبار العجائبية الكثيرة. إن للآغا علاقاته الشخوصية المتعددة، وهي فجأة تندفع في زقاق مفتوح على تجربة الضباط الذين يريدون المتعة بعد معارك الدم والقتل، فنجدُ الآغا يقيمُ علاقاتٍ مع (روجينا) التي لديها شبكة من المغنيات والراقصات المستعدات لتقديم خدمات متع متعددة وخدمات جاسوسية وتآمر كذلك، ويغدو لهذا الزقاق علاقة وثيقة بالبؤرة الحدثية الصراعية حيث تغدو بعض الفتيات ذوات علاقة بشخوص مهمة أخرى في الرواية كالضابط (بدري)، ثم بالتجسس على الآغا من قِبل دواد باشا ثم بمحاكمته وإعدامه. وهناك الموظفون الرسميون المحيطون بالباشا دواد، مثل ناطق القزويني الذي يكتبُ التقاريرَ السياسية عن الاجتماعات الرسمية ويقدم نصائح مكتوبة للباشا وهي مطولة مملة لهذا الأخير مثلما هي للقارئ. وفيها جانبٌ فكاهي مبتور. أما عزرا الشخصية اليهودية الجامعة للمال التي تغدو جزءًا من حكومة الوالي، فهي تشتبكُ بالصراع مع ساسون اليهودي الآخر التابع للحاكم السابق، وبينهما صراعاتٌ شخصية تستمر طوال الرواية من دون دور فني، بل كجزء من البانوراما التاريخية، ويظهر دورها خصوصاً في لحظات الصراع مع بريطانيا والحرب مع القبائل. وهناك شخصياتٌ أخرى مرتبطة بالقصر مثل عزرا لا أثر فني لها. والضابط الذي ينمو دوره الفني هو (بدري)، الذي يغدو واسطة العقد بين الطبقة العليا والطبقة السفلى، فهو ضابط جاء من الحارات الشعبية، وبدأ نجمه الفني بالبروز مع حفلة أقامها الآغا، وظهر فيها عشق بشكل رومانسي متضاد مع كلاسيكية الرواية، حيث بهرته الراقصة (نجمة) بشكل سخري، وهذه الراقصة التي ظهرت بهذا الشكل الفني الصاعق قــُتلت بشكلٍ صاعق مماثل. وبدري وراءه سلسلة من الشخصيات كذلك، فهو جزءٌ من حياة الحارة، فيلتقي شخوصا سيكون لهم حضور على حياة (البسطاء) خاصة (سيفو) وهو سقاء الماء الوحيد في هذه المنطقة من (الكرخ)، (وبغداد تنقسم إلى قسمين: الرصافة حيث الحكم ومؤسساته، والكرخ حيث العامة)، وسيكون لسيفو مغامراته مع الماء والصبية المشاغبين ومساعدة بدري في الوصول لحبيبته التي قفزتْ في احضان الضباط، بسرعة أكبر من عاطفته النارية، وسيكون لسيفو تعليقاته الصاخبة وآراؤه النيرة كذلك ومشاغباته التي لا تنتهي خاصة مع الملالي الفاسدين وزوجته. وسيفو مثــّل بطلاً شعبياً واعداً في هذه الرواية لولا أن الروي التصويري التسجيلي لا يسمح بمثل هذا النمو. وبدري الذي يحلم بالزواج من جميلة يتعرضُ فجأة لغضب داود باشا، بسبب هذا الجنوح لأماكن الراقصات، رغم ان الباشا لم يُدركْ الحلمَ الرومانسي لدى الضابط الشاب، لكن داود صار الحاكم الشرقي الذي يرى كلَ شيء، مستعيداً شيئاً فشيئاً دور أباطرة العراق القدامى، فينقل بدري إلى كركوك حيث يشهد هناك مصرعه، بسبب عدم تأييده للآغا عليوي وبدء محاولة هذا الأخير الانقلابية المُجهضة من هناك. ويغدو اغتيال بدري استمراراً لقوانين الرواية التسجيلية، فهذا البطل الشعبي المثقف الواعد بدور عبدالكريم قاسم وغيره، يختنقُ في سرد التسجيل مثلما يختنق سيفو وغيره، وتواصل الحركة شخوصٌ اخرى كوالده الحاج (صالح العلو) وأمه (أم قدوري)، ويختلف الحاج والأم عن غيرهما من الشخصيات الشعبية الوامضة، بكونهما يتمددان قصصياً، فالأبُ الذي صدمه قتل ابنه يُصاب بالمرض والغياب والانهيار، حتى يبدأ بالشفاء بسبب اهتمام الوالي ومعاقبته القتلة ورعاية أصدقائه في قهوة الشط بـ (الكرخ) وتطور عملية الصداقة بين رواد هذا المقهى ليتحول بعضهم للرسم والنحت. وهناك (الكيخيا) وهو نائبُ الباشا لكنه يجثم طويلاً في مكتبه من دون وظيفة حقيقية، فيصنع مشاريع وهمية، حتى يطلب منه الوالي قيادة حرب ثانية ضد القبائل العربية المتمردة، فيقود حرباً جامدة كخيالاته ينهيها بمذبحة، ثم يختم حياته الفنية بالدروشة والجنون. ولدينا عشرات الشخصيات الشعبية التي تقيمُ في قهوة الشط، وهي أبواقٌ للتعليقاتِ والحوارات السياسية كما لدينا عشرات الشخصيات الثانوية المُلحقة بالطبقة العليا، لكن شخصيات الطبقة الشعبية تواصل الحضور من بدء الرواية حتى نهايتها، عبر أقوالها اللفظية غالباً، التعليقية الملحقة بذيول الطبقة الحاكمة وحركتها السياسية. وفيما شخصيات الطبقة العليا الرئيسية تدفع بحركة التاريخ وتصنعه، خاصة داود باشا، الذي هو الحاكم الذي يقوم بأغلب الفاعليات لتثبيت النظام وتطويره بما يترافق مع تطور العالم في ذلك الحين، (الثلث الأول من القرن التاسع عشر) في حين تقوم شخصياتٌ بمواجهته خاصة القنصل البريطاني، وتتراوح الشخصيات الأخرى بين هذين القطبين، لكن دواد ينتصر ويتقزم القنصل البريطاني وأدواته المختلفة في ذلك الحين!

صحيفة اخبار الخليج
3 فبراير 2009