المنشور

تسعيرة الموت والحياة؟

حينما كانت عملية المجزرة تتم أمام مشهد العالم, كنت اسأل نفسي هل يكفي أن يضج الإنسان غضبا حتى تبح حنجرته؟ يصرخ من قمة رأسه فلا يجد أمامه إلا جدارا إسمنتيا من جدران الموت المتساقط. كنت أتساءل من يا ترى بإمكانه الآن إعادة الحياة للموتى؟ وكيف يتم تسعير الموت والحياة؟ فقد كانت المحطات الفضائية مولعة بتصيد أخبار الأرقام والتسابق في إحصائها وكأنما الحزن الإنساني هو حالة رقمية «ديجيتل» سحري يحقق لنا حلما منتظرا, فقد كانت غزة يومها مدينة على قائمة الموت وليس الناس فيها إلا أرقاما على خانة الانتظار تشطب او يتم تأجيلها أو يلعب الحظ معها فرصة البقاء قليلا أو حتى إشعار آخر, وليس الموتى إلا طابورا من البشر ينتقيهم ذلك اليانصيب اللعين, فالجميع بات مرشحا لتلك القائمة الواسعة بأسماء الموتى فليس مهما أن تحمل عنوانا او هوية مهنية, المهم ألا تكون تحت الركام بيدين او جسد ممزق ’ محروق ’ وقد تحول طفلك الذي حملته في حضنك بحثا عن زاوية من الأمان في تلك الغرفة الأرضية جثة هامدة ’ مشوهة معالمها ’ وحينما وصلت إلى المستشفى تراكض إليها صائدو الجثث والأرقام بسرعة فالموت هنا لعبة زمنية, لا ينتظر أحدا في زمن الحرب. كانت غزة في الليل عالما يسعد الأطفال المشحونين بالخوف ففي لحظة تدفق ’’ الألعاب النارية! ’’ كانوا أكثر سعادة من الكبار واقل فزعا وأكثر هدوءا, فليس في قاموس الصغار معنى للخوف ولا معنى لصوت القذائف, فكل ما يفزعهم هو ارتعاش الأمهات وخوف الكبار من معنى تلك الكارثة. الصغار يظلون دائما يضحكون ويلعبون ويفتشون عما يسعدهم بين الأنقاض, فهم قادرون على انتظار كل شيء دون أن يفهموا معنى للحياة, ففي غزة كان الموت جاثما, مشحونا بكل قسوة الحياة فلم يكن يعرف أي أبواب الجحيم يفتحها لابتلاع الجثث البريئة, جثث تمزقت دون رحمة واظهر الجلاد بربريته وأنيابه, وتخلى عما تبقى من آدميته التي تلبسها ذات يوم كحركة صهيونية عالمية, فهاجم الإرهاب تذرعا كما تذرع سيد البيت الأبيض الراحل حول أسلحة الدمار الشامل دون أن يقدم لنا بطاقة إرهابية واحدة يحملها في جيبه كهوية عسكرية بغيضة, فكل ما وجده نساء وطفولة وأصوات مسنات يصلين نحو السماء. كان على العالم المجنون في تل أبيب أن يراهن على الموت في بورصة الانتخابات القادمة, ففي صناديق أصوات الدم يولد نواب الرذيلة, وفوق جثث الموتى من غزة ينتصر العسكر والصقور ويحملون شارات نصرهم وإكليلهم وأعلامهم بخزي الكذب, فكل ما فعلوه أنهم دخلوا أحياء بدباباتهم بعد أن قصفوها من السماء, فاختفت بطولة المواجهة بين الرجال. كان الموت بين المتقاتلين لا يتقاسم نبالة المواجهة ولم يجد النبالة والفروسية من يشاطرها تلك الشجاعة, فمن يدخل مدينة معزولة مجردة من كل شيء ومن معالم القوة, لا ينبغي عليه أن يصبح سعيدا بانتصاره فكل ما حدث هو أن السماء وحدها كانت تقاتل من بعيد والبحر كان يقذف من بوارجه نيران شياطينه, في ساعات اختفى منها صيادو البحر في غزة عن إلقاء شباكهم وكانت على الأسماك في غزة أن تخرج من البحر لتقاتل بدلا من أن تتقافز كالدلفين, وكان على قصائد الشعر أن تبقى صامدة فوق الجدران وان تحلق فراشات الأطفال نحو الفضاء لتصطاد ال إف 16 لكي تبرهن المقاومة على امتلاكها صواريخ حديثة الصنع, جاءتهم من الأنفاق السرية الممتدة من أنفاق الجنوب اللبناني مرورا بتل أبيب حتى بيوت غزة المكابرة والفقيرة في مخيمات نسوا توثيقها في الأمم المتحدة ووكالة الإغاثة. لماذا قبلت إسرائيل القيام بمجزرة دون حياء داخلي ولا احترام لكل المواثيق ولا حتى التفاتة لأطفالهم وكل الجسد العالمي وروحه, كل ما عرفوا ترديده هو حماية المواطن الإسرائيلي – فقد كان شعارا انتخابيا لامعا يسهل من خلاله اجتذاب واصطياد سكان المستوطنات الجدد – وبالفعل لم تكن إلا مجرد صواريخ ’’ لاستفزازها ’’ ؟ ويا له من استفزاز مكلف وفاحش ولعين, لم يحسب قادة حماس أبدا أبعاده العسكرية والسياسية. أسئلة يسهل فهمها في قضية يصعب فهمها منذ ستة عقود, فكلما اقترب العالم من اجل السلام اشتعل فتيل الحرب والتهبت السن الاحتجاجات والتدمير, فندخل مرة أخرى نفق المستحيل وتتسع من جديد خطابات القوة والكراهية واتساع الهوة الإنسانية وجروحها في هتافات دامية. هل ينبغي على الشعب الفلسطيني أن يحمل دوما توابيت الموت ويمضي نحو الشتات المقفل؟ أم يفتح فردوس الحياة لأجيال قادمة؟ شئنا أم أبينا – نحن العرب أولا والفلسطينيين أخيرا – فلا يوجد خيار جغرافي وديمغرافي وتاريخي لهذه البقعة وشعبها أن يرحل أو يموت, فلسنا في أزمان الهجرة والرحيل, فقد اقفل الجنود في كل أصقاع الدنيا حدودهم, وعلى تلك الحدود نصبوا أعلاما ملونة وكتبوا عناوين وأسماء بلدانهم, وقالوا للمهاجرين «نحن لا نقبل شعوبا فائضة» ولا تصدقوا حتى الذين هتفوا من أجلكم اليوم, فهم في الوقت ذاته ينبذونكم عندما تنافسونهم في وظائفهم. الحقائق المرة نحاول الهروب منها غير إننا قادرون كالحواة وشركات التأمين على تسعير الموت والحياة ببساطة متناهية.

صحيفة الايام
3 فبراير 2009