المنشور

أن يكون للحياة مغزى


مرة انصرف سلامة موسى للتمعن في سيرة عدد من المشاهير الذين عمروا طويلاً، وعاشوا حياة مديدة حافلة. كان الكاتب مهتماً بمعرفة الأسباب والعوامل التي أطالت أعمارهم، كأنه يريد لقارئه أن يسترشد في توجيه حياته ما في دروس حياة هؤلاء من عبر، فإن لم يجد القارئ في حياة هؤلاء القدوة فلعله يجد فيها ما يدعو للتنبه.

وجميع من اختارهم كانوا من المسنين الذين استمتعوا بالدنيا، وليس المقصود هنا استمتاع الملذات المألوفة من ثراء أو سلطان أو شهوات، وإنما المقصود ذلك الاستمتاع الراقي الذي لا ترتفع إليه سوى النفوس الناضجة التي عني أشخاصها بتربيتها. من الشخصيات التي تحدث عنها سلامة موسى كان الزعيم الوطني المصري سعد زغلول الذي مات بعد السبعين لكنه لم يعرف شيخوخة الذهن أو النفس. أصبح سعد محامياً بعد أن تجاوز الثلاثين، ولكنه وجد ثقافته ناقصة فعاد تلميذاً ليدرس اللغة الفرنسية والقوانين الفرنسية ويتقدم لامتحان الدبلوم وهو في الأربعين. وحين عطلت الجمعية التشريعية في مصر أثناء الحرب العالمية الأولى التي كان سعد زغلول رئيساً لها أبى أن يتقاعد ويتثاءب، وكان قد تجاوز الستين، فعمد إلى اللغة الألمانية يدرسها وهو في تلك السن، حيث عاد تلميذاً للمرة الثالثة، في السن التي يحال فيها الموظفون اليوم على المعاش.

تحدث سلامة موسى أيضاً عن الأديب الايرلندي الأصل برنارد شو الذي ألف وهو في التسعين من عمره كتابا في السياسة والاجتماع. يذكر أن برنارد شو توقف عن تناول طعام اللحم منذ أن بلغ الثمانين من عمره واقتصر على الطعام النباتي، ولم يدخن أو يتعاطى الكحول قط، لكن سلامة موسى يعتقد أن حياة الكفاح التي عاشها شو هي السبب الأكبر أو الرئيسي لحيويته العجيبة التي ظل محافظاً عليها في عمره الذي كاد يبلغ مائة سنة.

 كلاماً مشابهاً قاله الكاتب عن المهاتما غاندي زعيم استقلال الهند، الذي كان نباتياً مثل برنارد شو، لكنه كان يضيف اللبن إلى طعامه المكون من الفواكه والخضراوات، وكان نحيفاً ضامراً لا يزيد وزنه على أربعين كيلوغراماً. لكن سر غاندي النحيف الذي يبدو عليلا عاش متقد الذهن حتى شارف على الثمانين من عمره هو أن حياته كانت سجلاً من الكفاح والتسامح الديني. يعتبر غاندي تولستوي الروسي وثورو الأمريكي الموحيين له في فلسفته إزاء الحياة، لم يكن غاندي متعصباً لدين أو فلسفة، كان الإيمان بالنسبة له هو ذاك الشعور الذي يبعث التفاؤل بمستقبل البشر والاقتناع أن الدنيا في تطور وارتقاء، كان غاندي الذي يستيقظ في الساعة الرابعة صباحاً وينام بعد العاشرة ليلاً يجاهد في جهات متعددة من أجل تكريس قيم الحياة الكريمة الحرة للمواطن الهندي، ومن أجل توحيد الهند واستقلالها وحريتها. يريد سلامة موسى، المصلح والنهضوي والتربوي وأبدع كتّاب المقالة العرب في النصف الأول من القرن العشرين أن يحملنا على إدراك جدوى ألا نعيش في خواء الذهن والنفس وعطالة الجسم. أن تكون لنا في هذه الحياة قضية وهدف نبيل نكرس جهودنا وطاقاتنا في سبيله، ما يجعل لحياتنا مغزى وطعما، وما يجعلها ثرية، معطاءة، مثمرة.
 
الأيام 24 يناير 2009