المنشور

الصحراويون والزرع


قال ابن خلدون عن العرب إنهم قوم غير محبين للحضارة، فكلما أسرعوا إلى مكان أسرع الخراب إليه، وحين فتحوا البلدان حولوا جدران القصور إلى أثافٍ توضع تحت القدور للطبخ وألواحها إلى خشب للنار.
هذا الفهم هو مطلق ولكن لو كان ابن خلدون قد قال إن هذا لا ينطبق على كل العرب بل على الأعراب، على (الصحراويين) لكان ذلك أصوب من هذا التعميم.
وقد قال الشاعر الجاهلي امرؤ القيس (ترى بعرَ الأرامِ في عرصاتهِا وقيعانها كأنه حبُ فلفل)، فشبه البعر بالفلفل، ورفع الجماد والبقايا إلى ثمار زرع.
وتجد ان البلدان التي كانت عامرة بالنخيل والشجر والينابيع تتحول بعد سنين أو قرون إلى صحارى من تحكمهم إلى فلوات، كأن الصحراويين يستدرجونها لطبيعتهم الاجتماعية.
المظاهر العابرة من قصور وأسواق ومبانٍ عامرة تصير بعد مدة إلى خرائب، فهم يحملون طبيعتهم الصحراوية أينما يولوا في أقطار الأرض، وكان النداء الرسولي 
  الذي حفظوه وما استوعبوه والقائل إنه حتى لو جاء يوم القيامة وبيد أحد غصن لابد أن يكمل عمله ويزرعه، والتوجيه الآخر بأن الأرض الخلاء، الصحراء، ملكٌ لمن يزرعها، وليست أراضي مسيجة وأعطيات تـُعطى.
وفي العصور الوسطى وفي المشاعيات الشعبية الإسلامية كثـُر زرع الأرض الصحراوية، وكثرت القرى حتى صارت بالآلاف، والمؤرخون لا يصدقون ذلك ويعتبرونه من الخيال العامي.
وأيضاً هناك تلك الوصايا الجليلة بضرورة أن يتمدن الأعراب ويكفوا عن العودة للبوادي والصحارى، ولكن كانت الرحلة عكسية فهم يذهبون لبلدان متطورة قليلاً ويجعلونها مثلهم.
يحمل الصحراويون بضاعتهم الاجتماعية وهي الأسرة الكبيرة والأولاد الكثيرون، وكراهية العمل اليدوي ووضع النساء في مؤخرة الخيام، وحفظ النصوص وعدم استخدام العقل والحكم المطلق والعراك المستمر على السلطة أساس إنتاج الإبل والغنم والثروة.
المدن التي يؤسسونها قاحلة، كأنها خيام من حجارة وطابوق، لا يفكرون في المياه إلا لشربهم ولدوابهم، والشوارع خالية من مظاهر الجمال، ويفضلون الأشجار البلاستيكية، أو يقلعونها ببساطة ويدفنون بها الشواطئ، فيضاف قتل الشجر مع قتل البحر، ومن أجل أبنية طابوقية كريهة أخرى.
فظهر استيراد الشجر والنباتات الخارجية التي لا تعيش في المناطق الصحرواية.
تظهر بوادر الكوارث الصحراوية مع التوسع اللاعقلاني في الأبنية على حساب الطبيعة، ومن أجل تراكم النقود وتفريغ الإنسان، محاولة تجميع البشر في بقع ضيقة محاصرة هو من أجل بضعة فلوس من تقليص مصاريف الكهرباء والمياه، ولهذا فإن الكهرباء والمياه هما أول من يشوط في هذه السياسة (الذكية) المقتصدة.
في المدن الكبيرة تقاوم الأنهار والزراعة والثقافة العلمية كالقاهرة الزحف الصحراوي، بصعوبة شديدة، تبدو بعض الأشجار كغابات صغيرة في الشوارع، وتحتضن البنايات كالجدائل، وتصحو العصافير فيها في الظهيرة، ونهر النيل يغذي الجميع، والإرث الحضاري القديم والخصب النهري يقاومان رغم كل شيء، لكن التلوث والسياسة النفعية اليومية وتكوين المدن العربية بشكلٍ صحراوي أضعفت القاهرة.
إذا كانت المدن العربية الإسلامية قد تكونت بشكل صحراوي، أي عبر قرارات الفاتحين العرب لتكون المدينة بقرب الصحراء، فإذا هُزمت القوات رجعت إلى البادية كظهير عسكري لا يُهزم، لكن من جاءوا بعدهم حافظوا على الشكل الانتقالي العابر للمدن العربية، مثلما جعلوا الأشياء الانتقالية والملحقات في الدين ومضافاتها السياسية الكسروية والرومانية بديلاً عن الجوهر الاجتماعي النضالي في الدين.
في تجربة بني عبدالقيس القبيلة الكبرى التي استوطنت إقليم البحرين نجد الصحراويين ينتقلون للزراعة والتحضر على مدى أجيال، ويؤسسون القرى والجزر الزراعية ذات التجربة الأخاذة وهم المحاصرون بين البحر والصحراء، غير قادرين على صنع عاصمة عربية كبرى، فالمدينة لديهم ظلت قرية.
لكن كان هذا أحفل بالعطاء، لأن الحراك الاجتماعي من قبل العامة ظل متدفقاً، ومع هذا فإن البدوي حين يغدو فلاحاً، فهو يجلب عادات البدوي فيه، مثل الكسل والعنف والغزو والرغبة في الحصول على الثروة جاهزة، يعمل قليلاً ثم يترك كل شيء للقدر، والنصيب، وقد فارقوا أفكار الجزيرة العربية البدوية لبدوية فلاحية، قدسوا الأشجار لأنها العيش ثم بصقوا عليها لأن العيشَ جاء من مصدر آخر.
ومع هذا فإن الزراعة لم تنهر بفعل كل هذه العوامل، بل تدمرت عبر فعل (الحداثة) الاستعمارية، عبر جلب كل المنتجات من الخارج، ومن دون رؤية القرى البحرينية – البحرانية كمدن، فتضخمت وتغيرت من دون الأسس التي قامت عليها من قبل الفاتحين العرب، فهي ليست مدناً ومع هذا أقحمَ كلَ شيء فيها.
كانت القرية البحرينية هي صديقة النبع والشجرة، في ذلك الحصار الصحراوي الغباري الحار، ولكن الفاتحين الغربيين لم يفهموا سيرورة المدينة الخليجية عامة، كأنهم في مدنهم الباردة في أغلب فصول السنة، رغم أن ثمة جهوداً منهم في الاهتمام بالزرع والخضرة عموماً.
القرية الخليجية محاصرة بفعل البحر والصحراء، مواردها المائية قليلة، وحين حصلت على كمية كبيرة من النقود لم يُخطط توزيعها بشكل عقلاني بل أقحمت القرية في المدينة بشكل حاد، فقامت المدينةُ المقامة بشكل اصطناعي بإزالة القرية الزراعية، وزاد الأمر حدة حين تحولت المدينة الخليجية إلى مدينة عولمية فيها كل أمم العالم واقتصادياته، ومع هذا فإن الطواقم ظلت صحراوية، وظلت تنظر للزرع والماء والبيئة الجميلة كملاحق تافهة بالمدينة العملاقة الخاوية من الحضارة العميقة.
لاحظ كيف انحشرت مدننا الخليجية العربية على رؤوس البر المتغلغلة بين البحر، وهي القرى التي كانت هاربة من الصحراء والتي تحاول الإطلال على التجارة والانفتاح الخارجي مع وجود خلفية زراعية وراءها، لكن العقليات الإدارية حولتها إلى مدن (كبرى) محشورة في البحر وزادتها بضرب البيئة البحرية وترك الصحارى تزحف على المدن من خارجها وداخلها.
 
أخبار الخليج 24 يناير 2009