المنشور

من تاريخ صراع القمم العربية (2)

شاءت المفارقات التاريخية الساخرة ان أكثر الانظمة حماسا لمقاطعة مصر لتوقيعها “كامب دافيد”، النظام العراقي السابق بزعامة صدام حسين، وعرابا لاحتضان قمة بغداد التي صدرت عنها قرارات المقاطعة، اضحى بعدئذ ليس واحدا فقط من ابرز الانظمة العربية التي اخترقت الالتزام بقرارات المقاطعة، وبخاصة أثناء حربه على ايران (1980-1988م)، بل المتسبب الرئيسي في تفجير النظام الاقليمي العربي، بعد اقل من عامين من إعادة مصر إلى الجامعة العربية وتثبيت عاصمتها مقرا لها، وكان ذلك على اثر الغزو العراقي للكويت صيف 1990م، أي مرور بعد عامين فقط من انتهاء الحرب العراقية – الايرانية.
ومثلما تمزق النظام العربي الاقليمي في ظل مقاطعة مصر إلى محورين: محور جبهة الصمود والتصدي، ومحور “المعتدلين” بقيادة السعودية، ها هو ذا النظام العربي يتصدع مجددا بعد اقل من عامين من قرار اعادة مصر، وقد جاء هذا التصدع ليعبر عن نفسه في قمة القاهرة العاصفة الطارئة لمناقشة الغزو العراقي، والذي لم يفشل في اقناع النظام العراقي بالانسحاب من الكويت فحسب، بل الاخطر من ذلك أدى إلى انقسام الدول العربية الى محورين جديدين: محور معاد للنظام العراقي ومساند بقوة للكويت والسعودية، ومحور آخر مساند أو مهادن للنظام العراقي.
ومع انه يمكن القول إن غالبية الدول العربية كانت ضمن محور الاعتدال (الأول)، إلا أن النظام العربي الجديد في ظل غياب المحور الثاني تعرض لانتكاسة خطيرة جديدة حتى بالرغم من وجود مصر فيه. وظل الحال على ذلك حتى في اعقاب تحرير الكويت وفرض الحصار على العراق طوال عقد ونيف (1990-2003م)، وتوقف انعقاد القمة معظم سني التسعينيات، وظلت مؤسسة القمة عاجزة مشلولة عن فعل أي شيء لردع العدوان الاسرائيلي على لبنان عام 1996م وهو العدوان الذي ارتكبت إسرائيل خلاله جريمة مذبحة “قانا الأولى” بحق اللاجئين اللبنانيين الفارين من الغارات الاسرائيلية.
أما القمم العربية التي قدر لها أن تعقد منذ أواخر التسعينيات حتى الآن مرورا بالغزو الامريكي للعراق لإسقاط نظامه، فقد كانت في مهازلها وما شهدته من صراعات عنيفة من الملاسنات والشتائم المتبادلة بين اقطابها تكاد تكون صورة طبق الاصل لمهازل قمة القاهرة الطارئة العاصفة صيف 1990م لاتخاذ موقف موحد من الغزو العراقي للكويت حينذاك.
وهكذا أخذت مظلة الامن القومي العربي المشترك في المزيد من الانكشاف والهشاشة مع تفاقم الخلافات العربية ليس فيما بين دول المحاور المتضادة بل داخل المحور الواحد، أو حتى ضمن المجموعة الاقليمية الواحدة: (الصراع اللبناني – السوري، الصراع الاردني – السوري، نزاعات وخلافات واضحة بين دول مجلس التعاون، نزاعات وخلافات حادة بين الدول المغاربية، الصراع المصري – السوداني، الصراع بين مصر والسعودية من جهة وسوريا من جهة أخرى.. إلى آخره من صراعات أخرى).
وزاد من تفاقم هذه الاوضاع حدة ما مر به عدد من الدول العربية من صراعات وحروب أهلية داخلية، فبالإضافة إلى الذيول والتداعيات المتجددة بين الفينة والأخرى للحرب الاهلية اللبنانية التي لم تتبدد، شهدت اليمن عام 1994م حربا بين شطريها الشمالي والجنوبي، واشتعلت حرب أهلية في الصومال وأخرى في السودان، وثالثة في الجزائر.
أما الجبهات الداخلية العربية الاخرى فكلها ظلت ومازالت تمر بمشاحنات، أو صراعات سياسية محلية اجتماعية محتدمة، تأخذ لبوسات طائفية أو مذهبية في كثير من الاحيان، وهذا يعني ان الامن القومي الداخلي بدوره لكل الدول العربية هش، وبخاصة في ضوء تفاقم أزمات انظمة هذه الدول وتعرضها للعزلة من شعوبها، ولم تفلح المشاريع “الاصلاحية” الشكلية التي نجحت في ان تضلل بها شعوبها لبرهة من الوقت في فك عزلتها وتخفيف تدني شعبياتها.
وحتى القمة العربية التي عقدت في لبنان والتي خرجت بالمبادرة العربية لم تستطع ان تعكس حالة ممانعة صحية عربية في مواجهة اسرائيل، إذ اضحت الدول العربية في ظل انقساماتها وهشاشة نظامها الرسمي الاقليمي، وتصدع جبهاتها الداخلية، لا تملك أي اوراق ضغط فاعلة سوى المراهنة فقط على أوراق استجداء “السلام” من أمريكا والمجتمع الدولي وتقديم التنازلات تلو التنازلات لاسرائيل وللولايات المتحدة، ولاسيما بعدما حذت دولتان عربيتان (موريتانيا والأردن) حذو مصر في توقيع معاهدة صلح وتطبيع مع إسرائيل، فيما طبعت معظم الدول العربية الاخرى علاقاتها مع إسرائيل إما تطبيعا جزئيا علنيا ورسميا، وإما تطبيعا سريا تارة، أو تحت مظلة مؤتمرات أو محافل وفعاليات اقليمية تارة أخرى.
وكان أخطر الحروب الاهلية ما شهده ويشهده العراق تحت حكم الاحتلال الامريكي من مذابح وأعمال عنف طائفية ومذهبية. وإذا كانت “كامب دافيد” قد أخرجت مصر عمليا من ساحة الصراع العربي – الاسرائيلي فان الغزو العراقي للكويت اخرج عمليا العراق من النظام الاقليمي الممزق الهش اصلا بعد إعادة مصر إلى الجامعة العربية، ثم قضى الاحتلال الامريكي على أي بارقة أمل ولو شكلية لتفعيل الدور العراقي في ظل انقاض النظام العربي الجديد الحالي الاكثر تضعضعا بعد الاحتلال الامريكي للعراق.
وبعد، ففي ظل أوضاع كارثية عربية تلك هي تراكماتها التاريخية السياسية على المستويين القومي والقطري، فهل ثمة عجب إذا ما عجزت القمة العربية الآن عن الانعقاد وظل اقطابها لا يتفرجون جميعا على المجازر الوحشية التي ترتكبها اسرائيل بحق اخوتهم في غزة فحسب، بل يدخلون في مارثون مضحك جديد من المزايدات الكلامية لإثبات من هو المتخاذل والخائن فيهم، ومن هو الناصر والمعين فعلا منهم لأهل غزة، فيما كلهم على حد سواء، اللهم بتفاوت نسبي جدا، شركاء في هذا التضامن التخاذلي المشترك، لكي لا نقول التواطؤ المشترك؟
 
صحيفة اخبار الخليج
19 يناير 2009