المنشور

دخان الكلام ودخان القذائف

يتعاطف كل إنسان مع كارثة غزة ومحنتها الإنسانية، حتى أولئك الهامشيون والمنبوذون والمشردون وذوو السوابق ، مثلما يتعاطف كل شخص يعتبر نفسه واعيا ومثقفا ومطلعا سياسيا بكل مجريات الأحداث السياسية العالمية، وبكل ما يدور بها من معادلات ومصالح سياسية في صراع الأمم والشعوب . جميعنا نلتقي كبشر في نقطة إنسانية مشتركة، عندما نرى مشاهد المذابح والمصائب التي سقطت على رأس غزة وقلبها وناسها الأبرياء، فتم في تلك اللحظة اختلاط المشاعر بالمواقف، والوعي بالسذاجة والطيبة الإنسانية باللامبالاة اليومية، التي يعيشها الملايين من البشر، فتجرفهم همومهم اليومية نحو الكفاح من اجل لقمة العيش والمستلزمات الحياتية الضرورية، ولكن في لحظة كارثية إنسانية كبرى وتراجيدية هائلة كما هي الزلازل يستيقظ الناس على حالتهم الحقيقية، ويكتشفوا إن هناك خيوطا إنسانية كبرى بين البشر تدفعهم للتعاطف، فتتحرك مشاعرهم نحو تلك المصيبة وما يمكنهم فعله في تلك اللحظة ! نعم هذا ما نريد قوله ماذا بإمكان الملايين من الناس المتظاهرين والمحتجين والمتعاطفين مع شعب غزة فعله في تلك اللحظة السوداء، ابتداء من شيوعيي أوروبا وانتهاء باصوليي باكستان واندونيسيا وغيرها من بالبلدان العربية والإسلامية .
ذلك الخليط البشري من الثقافات والأجناس والشعوب تحركها في تلك اللحظة مسألة مؤثرة هو ذلك المشهد المأساوي للضحايا من الأطفال والنساء والشيوخ وزخم عاطفية وشعبية وقومية ودينية، فيما تحرك قوى وحركات أخرى رؤية أعمق للمسألة، فخارج نطاق التعاطف الديني مع غزة، والمنّصب تحديدا على حماس والحركات الإسلامية المقاومة، هناك شعوب وحركات يدفعها وعيها بمعنى القوى المعادية للسلم والشعوب والديمقراطية في العالم وبمسألة حق الشعوب في الحياة ومناهضة الاستعمار في كل مكان.
بين رؤيتين مختلفتين في لحظة ما، نجدهما قد تداخلاتا بسبب تعقد الوضع السياسي والإنساني، ولكن الذين ينسون تلك الحقيقة إن المحنة محنة الشعب الفلسطيني في غزة وليس محنة حماس وحدها، فإنهم تعلموا أو ينبغي عليهم التعلم من حقيقة مشهد القذائف ودخانها التي تصب غضبها على شعب غزة وأطفاله، فيما راحت الأصوات الاحتجاجية الصوتية بدخانها ودموعها على شاشات التلفاز تجعلنا نعيد السؤال التاريخي المتعلق بمسألة الوعي بعمق الصراع، سواء العربي أو الإقليمي أو العالمي؟ ولماذا أصبح الوضع الحالي بتلك الدرجة من الوهن بحيث تعربد إسرائيل كيفما تشاء؟ هل نذهب مرة أخرى للحرب، أي نحن العرب شعوب وأنظمة أم نعيد النظر في الملف كاملا للمنطقة؟ لماذا بعد نكبة حزيران عدنا اليوم من جديد لنفس العبارات والتنديدات وقذف تهم التراجع والخيانة والصمت فبدأنا بجلد الأنظمة وجلد الذات؟ من يراهنون ويرون في زخم الشارع المتدفق والغاضب نهرا ينبغي الرهان عليه في الصراع الاستراتيجي لكل شيء، فانه لا يفهم فلسفة الوعي التاريخي للجماهير وتناقضات الصراع بين القوى الداخلية والخارجية وعناصرها الأخرى، لا يفهم جيدا إن تدفق العاطفة القصوى يعود منسوبه العالي دفعة واحدة إلى قاع الزجاجة بعد أيام من توقف الحرب وتوقف دخان القذائف من الفضاء والاستعداد مرة أخرى للجلوس إلى طاولة الحوار للتفاوض على ما يمكن أن يتم ترتيبه بين السلطة الفلسطينية ومراكز القوى في غزة والدولة العبرية.
وعلينا أن نفهم جيدا إن في الوقت الذي تتم فيه دك غزة المعزولة عن العالم والتي تقاتل بقواها الذاتية المتواضعة، هناك سلسلة من الاتصالات بين حماس وجهات معنية بالتهدئة «غير المشروطة!» لكي تجلس الأطراف المتنازعة لحل خيوط المشكلة.
وبما إن حماس جهة لا يمكن التفاوض معها دوليا وإقليميا لكونها موضوعة في خانة الإرهاب ، فذلك يحتاج أولا إلغاء تلك الحجة تماما، وهذا يتطلب بالفعل شهادة حسن سير وسلوك من حماس، ويكمن في اقتناعها بفلسفة بقاء إسرائيل والاعتراف بها كدولة لكي تتم عملية إتمام تبادل مماثل للجهة المتحكمة في غزة، إذ السلطة في رام الله أنهت تلك العقدة السياسية وباشرت الحوار الطويل والمتعرج ، فيما ظلت حماس وبعض التنظيمات مصّرة على نهج التدمير والعنف في مواجهة الاحتلال، وبحجج متبادلة بين الطرفين حول انتهاك هذا الطرف أو ذاك للتهدئة!! فيما الحقيقة إن الشعب الفلسطيني باتت له سلطتين تحكمان الشعب الفلسطيني داخليا فيما الاعتراف الدولي والعربي لا يتعامل رسميا إلا مع سلطة رام الله. ومن جديد ستنبثق المشكلة ذاتها وهي الصراع حول السلطة والثروة ومن يقود الشعب الفلسطيني.

صحيفة الايام
18 يناير 2009