المنشور

من أجل التحرير لا من أجل الطوائف

يسألني بعض الاخوة من لبنان عن ذلك المقال القاسي في اعتقادهم لحزب الله، ويقعون في أسئلة ساذجة، فيتساءلون هل حزب الله يمثل شريطا حدوديا جديدا لحماية إسرائيل؟
من طرح هذا؟
لكنني أناقش قضايا كبيرة تتجاوز هذه القضايا المحدودة.
حزب الله حزب مناضل ضمن ايديولوجيا معينة مذهبية لم تستطع في الداخل اللبناني أن توحده، رغم نضالها العظيم لتحرير الجنوب والدفاع عنه.
ونحن نتكلم ضمن لحظتنا الراهنة الساخنة المتفجرة، أي في النصف الأول من شهر يناير سنة 2009م، حيث تدك غزة وحيدة، وقامت حركة حماس بالمغامرة العسكرية فيها، وتـُركت وحيدةً تتعرضُ لأقسى السحق العسكري.
وكان لبنان بعد الاجتياح الإسرائيلي الدامي قد خاض تحولات سياسية كبيرة بدءاً من التطاحن الطويل على رئاسة الجمهورية حتى عودة مختلف الأطراف السياسية فيه إلى لم الشمل والمصالحة اللذين كانا عزيزين على قلب “كل” مواطن عربي.
ولهذا فإن حزب الله قد صار جزءًا مرة أخرى من الكل اللبناني الوطني السائر بحسب المنظور المشاهد للتعامل التوحيدي الداخلي، ولم يعد خارج هذه الحدود وشروطها الوطنية، التي تجعل قرار الحرب بأيدي الدولة اللبنانية وليس بأيدي أي حزب.
ولكن المرحلة السابقة، مرحلة الاجتياح والحرب، عرفت من حزب الله ومن بعض الأحزاب اللبنانية خطابات مختلفة، هي خطاباتٌ اعتبرت المشرقَ العربي الإسلامي منطقة واحدة، وأن الكل فيها يعمل من أجل هدف رئيسي هو القضاء على الاحتلال الإسرائيلي إن لم يتجاوزه إلى إزالة إسرائيل كاملة.
وقد سار لبنان في حركته السياسية الذاتية المستقلة عن العالم المشرقي العربي الإسلامي، بسبب طبيعة كل بناء عربي سياسي وطني له شروط تحركه الخاصة وظروفه النسبية غير المنعزلة عن الكل، ولهذا فإن سلاح حزب الله صار بؤرة التداول الوطني اللبناني، لأن صراع القوى السياسية اللبنانية غدا أهم من الصراع ضد السياسة الإسرائيلية الغاشمة، أو قلْ إن الضربات الإسرائيلية الهادمة لأغلبية لبنان وجهتْ الأمورَ نحو ذلك.
وهذا ما حدث سابقاً للأقطار العربية الأخرى، أولاً بإبعاد جمهورية مصر العربية عن معارك التحرير العربية، عبر اتفاقية السلام المنفردة لكن التي حصلت فيها مصر على مزايا كبيرة بهدف إبعادها عن النضال العربي المشترك لتحرير الاراضي العربية المحتلة.
ثم ركضت الحكومات الأردنية في اتجاه مماثل، وامتنعت الحكومات السورية عن الصلح المنفرد، حتى جاءت الحكومة الأخيرة وانضمت إلى بقية القافلة.
وأخيراً التحق لبنان بذلك عبر أسلوب مغاير متلون لكن لا يختلف جوهريا عما سبقه، بمعنى أنه لم يعد قادراً على المواجهة بعد التضحيات الجسام التي قدمها في معارك التحرير الرهيبة فيه.
ولكن “حماس” لم تكن تعترف بكل هذه المتغيرات، ووجدت نفسها في خضم الصراعات الداخلية الفلسطينية المتضادة، بين نهج تحولي مرن لا يعرض الشعب لضربات إسرائيل الغاشمة، ويواصل المطالبة بالتحرير الناجز للأراضي المحتلة بعد 67، وبين مغامرة حماس وطرحها أقصى المطالب من دون قوة كافية على الأرض لتنفيذها، واستخدمت في هذا ايديولوجية حزب الله وتكتيكاته بمهاجمة إسرائيل بالقوة الصاروخية، واستثمرت دعوته وقتذاك بشكل واسع لضرب إسرائيل بكل الأسلحة الممكنة حتى التحرير الناجز.
لكن إيقاع قوانين وسببيات كل دولة أمور مختلفة متباينة زمنيا وصراعيا، ففي حين تدخل سوريا في مفاوضات سرية لاسترجاع أرضها، يدخل حزب الله في الحكومة اللبنانية الملتزمة بالمعاهدات الدولية وقرارات الأمم المتحدة، في حين إن حركة حماس لها إيقاعها الخاص المنفلت، فهي ترفض قرارات الشرعية الفلسطينية، وترفض التوحد الفلسطيني، في حين ان حزب الله قبل الشرعية اللبنانية، فحماس ظلت مع إيقاع المحور الإيراني – السوري من دون إبداع خاص أو قراءة ذكية لظروفها فقاربت الانتحار السياسي، في حين إن مستوى حزب الله في توحده مع ذلك المحور كان مختلفاً بسبب ضغط الضربات الإسرائيلية أو بحساباته السياسية وبمراجعاته الداخلية ولكن لا أحد يعرف هذا إلا هو.
وفي هذه التقاطعات والتباينات بين قوى داخل هذا المحور الذي كان داعياً إلى المواجهة وتصفية إسرائيل وسحقها، جاءت حماس أخيراً وبدت ضحية بشكل كلي لتلك الشعارات المرفوعة، وهي تحملت وحدها وبشجاعة منقطعة النظير كلامها، من دون أن تطلب مساعدة عسكرية من أحد.
فحدث تباينٌ شاسع بين ما قيل عن تصفية إسرائيل وإلغائها من الوجود وبين عدم إطلاق رصاصة واحدة ضدها في هذه المعركة الرهيبة.
وإذا تجاوزنا هذه الاختلافات الظرفية في هذه المعارك المحدودة القطرية، فأسئلتنا تتوجه لماذا يحدث ذلك، وأين الخبرة الإسلامية والعربية الطويلة، وهل الجماعات المذهبية الشيعية والعلوية والسنية ترفض تلك الخبرة الطويلة ولماذا؟
فلابد من محاكمة عقلانية مسئولة لفكر هذه الفرق والجماعات ولماذا هي بهذه التشدقات من جهة وبهذه البسالة المغامرة من جهةٍ أخرى؟
لابد لنا من العودة لقراءة تاريخنا ولماذا انتصر من سبقونا في معارك التحرير وفشلنا؟
إن انتصارهم في معارك التحرير اعتمد على توحدهم، بظروف عصرهم المذهبية السياسية وبسبب سيادة المذاهب السنية وحشدها أغلبية جموع الأمم الإسلامية، من عرب وكرد وترك وفرس وبشكل منفتح أكثر من الراهن التعصبي.
إن دولاً وجماعات ديمقراطية علمانية توحيدية تحشد هذه الملايين من القوميات الإسلامية وبكل الجذور الإسلامية والمسيحية وإضافاتها المعاصرة الديمقراطية، قادرة على التحرير والتغيير، أما جماعات مذهبية منغلقة تقوم بتأجيج العداوات المذهبية فمصيرها الفشل على كل الأصعدة.

صحيفة اخبار الخليج
17 يناير 2009