المنشور

خسائر حروب العصابات المذهبية

تشكلت الحروب في السنوات الأخيرة في العالم الإسلامي بصفة حروب عصابات مضادة لتطور التاريخ.
إن الجماعات الدينية التي تشعلها جاءت من حماس جماهيري كبير، لكنها تقوقعت في مناطق صغيرة، سواء كانت أريافاً معزولة بين الجبال، أو بوادي قاحلة، أو مقاطعات ذات مساحات كبيرة انتــُزعت من دول.
سواء كان ذلك في دولة مسيحية كالفلبين أو إسلامية كافغانستان، أو مدنية كالعراق، أو كجنوب لبنان، أو غزة، أو منطقتين شاسعتين كجنوب السودان وغربه، أو مناطق الجبال في الجزائر أو الصحراء المتنازع عليها في المغرب.
هذا الامتداد الشاسع لحروب العصابات يعبر أول ما يعبر عن التوجه لتفتيت الدولة المركزية، فالدول عاجزة عن إيجاد وحدة لشعبها المفترض، بسبب الأصول الدينية والعرقية والدينية غير المنسجمة مع بعضها البعض، وهي كلها تواري أسباباً اجتماعية صراعية لم تـُحل على مدى عقود، ولأن الدول المركزية لم تقدم رفاهاً لشعوبها، حتى تآكلت الخدماتُ وضج الناسُ بالشكوى من دون فائدة، فلجأت أطرافٌ إلى العنف وخاصة (حرب العصابات).
إن اختيار حرب العصابات جاء معاكساً للتاريخ، فقد كانت حرب العصابات هي الوسيلة الأساسية في هذه الدول لانتزاع الحرية من المستعمرين، إلا إذا كانت ثمة جيوش وطنية راسخة، تقوم بانقلابات.
ولكن أن تتفجر حرب العصابات ضد دولة يُفترض أنها وطنية، معبرة عن النسيج الشعبي العام، كما تقول مدوناتها الدستورية، المرفوعة غالباً على الرفوف، فهو حراك مضاد للتاريخ.
فقد وصل نسيج الشعب للتمزق، وما عادت الدولة دولة مواطنين متساووين، فجاءها الخرابُ على شكلِ حربِ عصابات لا مستقبل سياسيا لها، فلو كان ثمة أفق سياسي يبشرُ بدولةٍ جديدة توفر المساواة والفرص المشتركة للمواطنين، لقلنا بأنها حرب على مرارتها ذات أمل، ولكن هذه الحرب الضروس ليس دورها سوى تصفية البشر والموارد.
في جنوب السودان كان لحرب العصابات هدف عقلاني وهو إنشاء دولة المساواة الوطنية بين الشمال والجنوب.
لكن ما هي نتائج حروب العصابات والمذابح في العراق وإفغانستان وغزة والجزائر؟
تعبر حروب العصابات هنا عن تحرك أقليات تريد فرض أجندتها السياسية بالقوة على أغلبية المجتمع، ولو كان ثمة أزمة تستدعي مثل هذه الحروب لوجدنا أن هذه الحروب الصغيرة تتسع وتشمل الشعب كله مثلما حدث في حروب التحرير، حين ينخرط الشعبُ أو يعاضد مثل هذه الحروب المبررة.
ولكن الشعوب لا تعاضد مثل هذه الحروب، وتبقى سلبية، متذمرة من وقائعها ونتائجها، التي تصير كوارث على أمنها وعيشها بل تغدو مذابح لها.
يقود حروب العصابات هذه غالباً دينيون يعرفون العنف ولا يعرفون السياسة، يحفظون بعض الآيات ولا يفقهون التراث، فحروب العصابات هذه نتائج صراعات مذهبية أو قبلية أو مناطقية، ويعجز أصحابها ومفجروها عن إقناع الشعب بحججهم السياسية وببرامجهم.
وبعض حروب العصابات تتحول من ظاهرة إلى متوارية، فالتنظيمات العنفية تخسر أعضاءها بأشكال حادة من قبل الأنظمة التي تستغل هذه الألعاب الدموية في حملات شرسة عليها، تجتثها وتلقي أعضاءها مدداً طويلة في السجون كما جرى بشكل مطول في مصر، فتتوجه الجماعاتُ إلى أساليب ملتوية، وتعلن السلام الأهلى وطرق النضال البرلمانية، لكن جوهرها الطائفي لا يزول، ورغبتها في السيطرة على النظام من خلال تحكم طائفي يلغي بالتاريخ الوطني، لا تتضح ظاهراً ولكنها متوارية ملتحمة بكل خطواتها.
ف(ديمقراطيتها) تهدد الحياة أكثر مما تفيدها، وهي تعجز كالنظام عن التحول إلى تنظيمات وطنية، وتعتمد على الجهل الشعبي وهو خرابٌ آخر متوار.
وهذه حرب عصابات مدنية بعد أن فشلت حرب العصابات الحقيقية، أو قد يتزاوج الشكلان من دون أن يثمرا سوى عن مزيد من الدمار للميزانيات المسروقة أصلاً وللخريطة الوطنية التي تهترئ وتتمزق في المشاعر والأفكار والأرض.
لو أن التنظيمات الطائفية حكمت لوجدت نفسها أمام جدار، ولأسست نظاماً شمولياً يقود لمزيد من التأزم والكوارث، ولنشرت الموديلات الطائفية نفسها في بلدان أخرى لتغدو الأزمة عامة مناطقية واسعة.
والأمر يجري على هذا النحو وتنتقل حروب العصابات من بلد إلى آخر، عجزاً من الحكومات عن التحول لحكومات وطنية غير فاسدة وتنموية حقيقية، وعجزاً من التنظيمات عن التعبير عن الكل الشعبي الوطني.
ليس ثمة طريق آخر كما يبدو وأزمة الدول المتخلفة تتفاقم، مع أزمات الدول الغربية المالية المتصاعدة، وسنجد أن الدول التي تصدر الارهاب تستقبله، والطوائفية والأزمات تنخرها، وتلف العالم الإسلامي فوضى كبيرة.
كانت فترة الطفرة النفطية فرصة ذهبية لدول الخليج لكي تبتعد عن قوس النار الطائفي المنتشر هذا، لكن الآن لم يعد هذا الأمر ممكناً، وضرائب فترة غياب الإصلاحات العميقة البنيوية قد حان تسديدها.
وما يحدث من تهدئة لحروب العصابات في هذا البلد أو ذاك قد يأتي من الضربات الأمنية الساحقة المنهكة للجماعات الطائفية، ومن خسائر هذه الجماعات الجسيمة، لكن جذور المشكلات لم تحل، فتجد انبعاثها في فترة أخرى ومناطق بكر أخرى تقدم المزيد من الضحايا.
والانتخابات الحرة الحقيقية عبر الجهل الشعبي الواسع غير المدرك للديمقراطية، وكذلك الانتخابات المحدودة، كلتاهما خطرتان، فالأولى تقود لفوضى، بسبب أن قسمات الديمقراطية الحرة غير ممكنة في شعوب دينية محافظة، سوف تصعد قوى طائفية متحاربة، والثانية تعجز عن ضرب الفساد المستشري الذي تجذره الطبقات الحاكمة.
قد تكون لبعض حروب العصابات إنجازات كانهاك دولة معتدية، أو قيام نظام مشترك بين القوى السياسية الكبيرة، لكن مشكلات العالم العربي الإسلامي عصية في هذه الفترة على الحل.

صحيفة اخبار الخليج
13 يناير 2009