المنشور

صناديق الاقتراع ملطخة بدم غزة

هطلت كالحمم الغزيرة على سماء غزة الصغيرة القنابل القادمة من طائرات F16 وربما هناك أكثر من ذلك حمما في الأيام القادمة، أو تتوقف تلك النيران بعد انجاز مهماتها السياسية والعسكرية. وكالعادة في كل مرة حالما تسقط مدينة معزولة وضعيفة تفتقد لقدرتها على تغطية الفضاء المكشوف نتيجة ضعفها العسكري وخلوها من امتلاك الطيران والمدافع المضادة للطائرات، يبكي العالم العربي والإسلامي والإنساني على تلك المشاهد الإنسانية المروعة، وكأنها هدايا أعياد الميلاد ورأس السنة لحالتنا الإنسانية وأزماتنا المتتالية.
وفي الليالي الاحتفالية بعيد ميلاد المسيح والهجرة النبوية تقدم إسرائيل للعالم صورة بشعة عن حضاراتها! وعن فعلها، وعن صورة أخرى من الانكسار الكامل لكل شيء في منطقتنا إلا حالة واحدة لم تختف منذ وقت طويل اعتدناه منذ هزيمتنا في حزيران، إذ نخرج للشارع غضبا منددين مثلما نستخرج طاقتنا الانفعالية المخزونة كتعبير عن انشغالاتنا اليومية بحياة استهلاكية يومية وحياة باتت مكبوتة بأشكال عدة حتى وان أبرزتها الثورة المعلوماتية عبر مواقعنا السرية في الانترنت، ولكنها في نهاية المطاف ظلت غير قادرة على ضرورة الفعل لحظة المواجهة التاريخية. وكالعادة بدا المشهد الدموي في غزة مقززا لكل مشاعر إنسانية إلى حد تداعت فيه الجامعة العربية والزعماء العرب إلى التحرك الفوري، فبدأت الاتصالات والتحركات بهدف اللقاء السريع والعاجل، ومن الطبيعي أن نجد دولا تتلكأ وتضع بعض الشروط والحجج في لحظة تاريخية لا يجوز فيها سوق الحجج ولا المبررات، إذ بإمكان من يضعها أن يحضر ويدافع عن حججه دون الحاجة للاعتذار أو التملص والمبررات، فذلك يضعف ويقلل من قيمتها كدولة لدى شعبها ولدى الشعوب العربية. ما فعلته كارثة غزة لدينا نحن العرب هو رؤيتنا لزعماء وقادة يجيدون فن الخطابة والشحن، ويبحثون عن مدخل لتسوية ظروفهم، ويطرحون أنفسهم كقادة وبدائل للمرحلة، لكونهم يدركون إن الشارع العربي بات عاطفيا وضعيفا في لحظة غزة التاريخي، فلماذا يقتنصون فرصة الخطابة العصماء التي اكتشفناها مع هزيمة حزيران ومع كل لحظة فجيعة؟!. ولكن عللنا كثيرة حينما نخضع الكارثة لحقائق كثيرة ولمنطق صارم. فمن يخطبون بصوت مرتفع يدركون ان العرب لا يمكنهم الذهاب للحرب، ولكنهم في أقصى مدى بإمكانهم تقديم مساعدة لفك الحصار عن غزة، وفي الوقت ذاته يدرك العرب ان حماس تحاول أن تضرب برأسها في الجدار في كل لحظة تفاوض بإغلاقها الطرق مثلما تسعى حكومة رام الله بالتنازل أكثر مما ينبغي لمجرد أنها صدقت وعود رئيس فاشل سيغادر قريبا البيت الأبيض.
وفي لعبة معايير التوازن العسكري لماذا أغمضت حماس عينيها عن حقيقة ما يمكن أن تواجهه غزة حتى بعد رؤيتها كيف مارست إسرائيل نفس الوحشية مع بيروت، بهدف ترويع السكان وتخضعهم للوضع النفسي والارتباك الإنساني، مع تفاوت وضع المقاومة في الجنوب اللبناني وتفاوت المقاومة في غزة المطوقة بحرا وجوا وبرا. وبما ان تمارين حماس وتجاربها الصاروخية اليتيمة لم تؤدِِي غرضها السياسي والإيديولوجي، فان الغرض الإسرائيلي بدا أكثر وضوحا للداخل الإسرائيلي واستعداد الكبار الثلاثة (ليفني ونتانياهو وباراك ) لكسب الأصوات الانتخابية وصناديق الاقتراع. وفي ظل توتر وازدياد حالة الانفعال المضادة للصواريخ القادمة من غزة، والتي عززت من شعور الرد الفوري، فان الفرصة باتت سانحة لحلم ليفني في ميراث مقعد اولمرت المتآكل، ومن الضروري أن يواصل حزب كاديما وصقوره الدمويون في كسب جولة الانتخابات مهما كان الثمن، حتى وان جاء على أشلاء ودماء الأبرياء مع قطاع إمكانياته الخطابية والإعلامية أعلى من دخان صواريخه التجريبية البدائية ! وإذا كانت أصداء الأصوات الخطابية والانفعالية العربية لا تفعل فعلها إلا في شارعنا، فان أصداء حريق غزة وبكاء نسائها صار له متعته لدى الصوت الانتخابي الإسرائيلي، الذي تحول تلذذه السياسي مع سياسة الشحن الداخلي لمواطني المستوطنات الذين يجيدون فن البكائيات للعالم الخارجي، ويركضون بتلك المشاهد المضحكة للعالم كونهم ضحايا للإرهاب!، وقد ساعد على ذلك ضعفنا المستمر في وضع استراتيجيات إعلامية وسياسية واضحة، ولا تخضع للأمزجة الشخصية ولا لصراعات الكراسي في سلطة محتلة تمزقها الفُرقة اشر تمزيق.
ما يجعلني استغرب وأتألم هو الاكتشاف العاجل للمحنة الدائمة لشعار يتكرر في المصائب فقط وهو شعار صار ممجوجا بأهمية الوحدة الوطنية وبكسر العرب لصمتهم. والغريب أن نجد شارعنا المنفعل يهاجم الأنظمة وحكامها وفي ذات الوقت يطالبها بالتحرك لوقف المجزرة في غزة. بل ويكتشف شارعنا السياسي المعادلة الساذجة بأن العرب لا يمكنهم دخول الحرب في ظل أوضاع سياسية، رسمية وشعبية بهذا المستوى، ولكي يجتازوا عبور البر والبحر والفضاء عليهم تغيير الأنظمة وهو أصعب بكثير من إزالة إسرائيل، بعد ان خبرت الشعوب أنها باتت تفضل أنظمتها الحالية قياسا بزمن حزيران وثوريته. فمن يفك أسرار معادلتنا السياسية حال دخولنا محنة طارئة أو منتظرة؟!
 
صحيفة الايام
12 يناير 2009