المنشور

محمود أمين العالم

التقيت محمود أمين العالم، الذي رحل عن عالمنا منذ يومين، مرات قليلة خارج البحرين، لكن أكثر منها رسوخاً في الذاكرة هي تلك المرة التي جاء فيها إلى البحرين بدعوة من مركز الشيخ إبراهيم الخليفة للثقافة والتراث، حيث تشرفتُ بتقديمه في الندوة التي أقامها في مقر المركز في المحرق. وما زلت أذكر تلك الروح المتفائلة التي تطغى على حديثه وأطروحاته، رغم الظروف المعقدة التي يمر بها العالم العربي، هذا فضلاً عن إقباله على الحياة، ومقدرته المدهشة على الاستمتاع بمكامن الجمال فيها، فبدا لي، وكان قد تجاوز حينها الثمانين من عمره، أكثر شباباً من الشباب أنفسهم. في أرشيف المنبر التقدمي تسجيل بالفيديو لمحاضرة ألقاها في المنبر منذ نحو أربعة أعوام في زيارته تلك للبحرين. في تلك الندوة قال كلاماً كثيراً في الفكر، وفي الثقافة وفي السياسة، هو الرجل الذي يمسك بنصية أكثر من حقل، وينطلق من تأسيسي معرفي- فلسفي راسخ، غذاهُ بالعمل الفكري الدؤوب، باشتغاله على جبهة الفكر منافحاً بشجاعة عن أفكار التقدم والديمقراطية والحرية والحداثة. وعلى الدوام ربط عمله الفكري بالممارسة النضالية التي لم يتخل عنها حتى الرمق الخير من حياته. ومما قاله يومها أنه لابد من البدء من البنية التحتية لإحداث أي تغيير، وحتى تصبح المواجهة حقيقية، لا بد أن نبدأ من أسفل «ليس بشكل مطلق طبعاً» وسنحتاج إلى عمل طويل من هذه القاعدة. وقد أوضح فكرته تلك بالدعوة إلى الانتقال من الشعبوية التي سادت لفترة طويلة إلى أن نحقق ما دعاه بـ «عضونة» أفراد المجتمع. والمقصود بهذا التعبير أن يصبح الناس أعضاء في جمعيات و تنظيمات وهيئات أهلية مختلفة، لأنه يرى في ذلك ضرورة لأن يتحول العمل النضالي للناس إلى عمل مؤسساتي، يحرز مواقع نفوذ جديدة في المجتمع، بالمعنى الذي تحدث عنه المفكر الايطالي غرامشي. في العمل النضالي اليومي، كما في العمل على الجبهة الفكرية، لا يوجد حسبما يرى الراحل الكبير ما يشبه «افتح يا سمسم»، فتتفتح الأبواب وتنجز المهام بشكل سحري، فالنجاحات لن تتحقق إلا عبر عمل طويل ومثابر، لا تثنيه الصعوبات والإخفاقات التي لا مناص منها حين يدور الحديث عن العمل في سبيل التغيير وانجاز البديل التاريخي. وهذا البديل التاريخي، في ذهن محمود أمين العالم واضح ومحدد، فهو يراه: تقدمياً، ديمقراطياً، عصرياً، منفتحاً على العلم وعلى العصر والمستقبل، لأن بعض البدائل المطروحة في ساحتنا العربية، ونحن هنا لسنا استثناء منها، ستقودنا إلى المزيد من الخراب والتأزم وانسداد الأفق. وبمفردات العالم نفسه، فإن المعركة تاريخية ولا توجد وصفات جاهزة أو حلول فورية، بل عمل إنساني عضوي تاريخي يحتاج إلى الثقافة والمثقفين وسيادة الفكر العقلاني النقدي. ما من مفكرٍ يساري عربي مثله أبرز الجانب الإنساني العميق في اليسار. وفي عمله الفكري وممارسته الكفاحية أظهر الآفاق الرحبة للفكر التقدمي العلمي، رافضاً «قولبة» هذا الفكر في أطر جامدة مغلقة، بانفتاحه على المنجز الإنساني التقدمي وعلى ما في التراث العربي- الإسلامي من عناصر وجوانب مضيئة. كما عُرف بمجادلته لخصومه بالتي هي أحسن، فأصبح موضع احترام وتقدير لا من قبل المريدين وحدهم، وإنما حتى من قبل الخصوم.
 
صحيفة الايام
12 يناير 2009