المنشور

الفضاء المكشوف والمنافذ المغلقة

تابعت مثل غيري من المئات العرب كل ما يحدث في غزة, بل وتابعت كل ما يدور حولها من تصريحات وتشنجات وانفعالات, فلم أجد من بينها حلا واحدا مقنعا يقنعني بكل تخبطنا شمالا وجنوبا, بل وضربنا رؤوسنا بالحائط بقوة دون أن نعثر على مخرج واحد للمعضلة, إذ لسنا هنا بصدد الحديث عن أهمية الاحتجاجات والتضامن والشتائم في الفضائيات والصحافة وكل وسائل الإعلام, لمسألة بديهية لا خلاف حولها عن أن العدوان الإسرائيلي برهن عن انه عدوان جبان يسعى لتدمير وإبادة كاملة ليس لحماس وحدها وإنما لشعب كامل في القطاع مثلما فعل قبل ستة عقود حينما انتهك وسلب ارضا لشعب وطرده من وطنه تحت ذرائع عديدة, واليوم يمارس ألاعيب أخرى مستحدثة. لسنا على خلاف على إدانة العدوان والجهة التي تمارسه, ولسنا على خلاف بضرورة دعم الشعب الفلسطيني في محنته وبضرورة كسر الحصار على غزة مهما كان الثمن. ولكن الخلاف يولد في الشارع العربي وانظمته عند الجلوس والحوار حول تفاصيل الآلية والكيفية التي ينبغي فيها مواجهة العدو الغاشم, والذي سببناه وشتمناه بما يكفي, ولكننا عجزنا حتى عن رجمه بحجارة الشيطان, ذلك الشيطان المعاصر الذي وضع قطاع غزة وشعبها في حالة حصار بحري وبري وتملك فضاءه واحتكره بالكامل, بحيث لا تستطيع أية قوة عربية أو دولية كسره بالقوة,
وهذا ما تدركه إسرائيل جيدا, فهي تعلم أن الموضوع يمر بإجراءات طويلة معقدة أطول من عدد الأيام التي تحتاجها في تسوية أمورها في قطاع صغير ومحدود من حيث رقعته وقدرته على المقاومة, مهما حاول شعبها من الاستبسال والصمود والمقاومة, لعلها بعد ذلك الانتصار العسكري تنجز انتصارا سياسيا آخر وتفتح الأبواب لحوار عربي إسرائيلي واسع, ومن جهة أخرى تفتح أبواب صناديق الاقتراع لكل من يرغب دعم حزبي العمل وكاديما اللذان يحاولان المزايدة على مسألة الدفاع القومي كمسألة استراتيجية عن امن إسرائيل, والذي من جانب آخر يزايد عليه نتنياهو كحزب لليمين المنافس في الانتخابات القادمة.
بين ذلك القش العربي الهائل هذه الأيام وجدت شتما واسعا للأنظمة العربية والصمت العربي, ولكن الذين قدموا شتائمهم على شاشات التلفاز لم يكونوا إلا صغارا مثل أصواتهم البائسة, إذ كانوا على علم بأنهم اضعف من تغيير جلدة الدجاجة وليس جلد الأنظمة, بل ولم يسألوا أنفسهم سؤالا هاما وبسيطا كإبرة صدئة, بأن تلك التظاهرات الصاخبة ضد السفارات المصرية والأجنبية في البلدان كانت عاجزة عن اختراق ليس جدار رجال الأمن وحسب بل وحتى الأسلاك الشائكة المتواضعة, فهل بإمكان لتلك القوى المنفعلة قادرة على انجاز مشاريع تاريخية كبرى كإزالة إسرائيل الغاشمة التي تعبث في غزة كيفما تشاء ومتى ما تشاء ؟ المسألة أعمق من حملة الانفعالات والأوهام والشتائم والتنديدات ورجم الأنظمة العربية بأكثر مما تحتمل, بل وبدعوتها للحرب الإقليمية في زمن يسعى العالم للتنمية والسلم والديمقراطية, ولا يمكن نقل الصراعات الثنائية المتمحورة بين جانبين نحو دائرة من النار الواسعة, وحدهم من يرفعون شعارات الأمة يعودون لنقضها بسرعة في قوالب الشتائم, ويدخلون في تناقضات شتم الأنظمة ودعوتها للتدخل, مثلما نسعى بسرعة لدعوة مجلس الأمن بالتدخل في وقت ندرك ان مجلس الأمن الدائم تحكمه دول عظمى تناقش ما تريده في الدهاليز بهدوء تحكمه المصالح, فالعواطف لا تعالج السياسات والصراعات كما يتوهم صرعى الفضائيات في زمن المحنة!. حاولت أن افهم المداخل والمخارج العملية للسياسات الفلسطينية الممزقة, والتي تجيد خطاب الندم في لحظة الأزمة, فتكتشف سهولة المعادلة السياسية, بأن الفرقة لا تنفع الشعب الفلسطيني,, وعلينا أن نتوحد وننسى خلافاتنا,, فابتسم وأقول في نفسي يا للاكتشاف الصعب لشعب تملك خبرات واسعة من السياسة, ويدرك أن تلك المقولات من الصعب الاختلاف على مبدئها ولكن الصعوبة في تحقيقها عندما يتم الحديث عن توزيع حصص المقاعد والثروة !! إذ يولد نزاع الموت والتدمير بين هابيل وقابيل ويبدأ الدم ينزف دون توقف. وحينما يبدأ الغريب يدخل المرعى يناشد الإخوة, إخوة الدم بعضهم للمناصرة,
ولكن الفجيعة, هو عند فوات الأوان, فلسنا في زمن القبيلة ولا سيوفها, وإنما نحن في زمن التدمير من الفضاء, وعلى القوى الصامدة في غزة أن تسأل نفسها أسئلة عملية خبرتها كل من دخل الحروب القصيرة والطويلة لحروب العصابات والحروب الشعبية, هل تؤهلها الظروف اللوجستية والطوبوغرافية في مواجهة العدو؟ هل لديها قدرة على إدارة مجتمع مدني من نواحي تموينية وغيرها في ظروف حرب شعبية طويلة؟ ما هي القوى التي تسند المقاومة من الخلف, كالأرض والجغرافيا والتصنيع والمواد الأولية؟ هل تملك المقاومة جسمين, سري وعلني محكم قادر على اختراق العدو وليس العكس؟ ما نراه يعكس حقيقة الصراع وقدرة إسرائيل حاليا على ضرب الطوق وخنق غزة بالحصار القاتل التدريجي وإنهاكه على المدى الطويل, فصار تدميره من الفضاء أسهل واختراقه وتدميره على الأرض ممكنا في محيط جغرافي محدود. ما اكتبه ليس حلا ولا معالجة وإنما تصورا للواقع الحالي بعيدا عن صوت الإدانة والصراخ فذلك لن يمنح سكان غزة لا خبزا ولا دواء ولا حتى صلاة الموتى من بعيد. من يمتلكون الحل هم شعب فلسطين وحدهم, وبحوارهم العقلاني يستطيعون مسك الإبرة في القش بدلا من مناطحة السحاب. في النهاية ليس رغبة الموت بطولة, فذلك أمر مارسه ويمارسه الانتحاريون دائما, وهم يدركون أنهم فشلوا في نهاية المطاف في تغيير الأنظمة, ومثلما البطولة الفلسطينية لا تصنع معجزات, فإنها في النهاية لن تصنع حلا.

صحيفة الايام
11 يناير 2009