المنشور

مذبحة غزة – استان!

ستظل صور أشلاء جثامين الأبرياء – خاصة الأطفال- ضحايا مذبحة قطاع غزة أو ‘غزة – استان’ عالقة في أذهاننا لفترة طويلة، تلاحقنا في اليقظة والمنام. وحيث إن الهيجان العاطفي من المشاعر القومية والدينية الجيّاشة (زادنا الأمثل) منفلتة من عقالها، متجاوزة درجاتها القصوى في الظرف الآنيّ، فإنه من الصعوبة بمكان في الوقت الحاضر أن نعيد ترتيب الحسابات الخاطئة وتحليلها وفق العقلانية الغائبة أصلا عن الزمان والمكان العربيين. لابد أن يمر بعض الوقت للعودة إلى الإحساس العقلاني السويّ ومبارحة حال التأجج العاطفي الأصمّ. على أن الصورة النهائية أو الترتيبات الأولية لوضع نهاية لهذه المأساة الإنسانية أصبحت واضحة من خلال الاقتراح المصري/الفرنسي ذي النقاط الاربع المتمثلة أولا في: وقف صواريخ حماس والإمدادات العسكرية لها في هذا السياق؛ حتى نتحصن عن مرمى اللؤماء ونتحاشى نعيهم لنا بصفة التخوين والجبن المجانيين، نقول بصدق.. في هذا الظرف العصيب لا يوجد أصلا اختلاف بين من يفكر بقلبه/عاطفته ومن يفكر بعقله حول الضرورة الآنية القصوى في عضد المقاومة الفلسطينية بكل الوسائل المتاحة والمبتكرة ومحاولة كسر الهيبة العسكرية الإسرائيلية والهيمنة المتطرفة لليمين الإسرائيلي وخطته العدوانية والعمل على تقليل الخسائر، خاصة في الأرواح البريئة. ولكن السؤال كيف.. وهل من سبيل؟! في وقت يعاني فيه الطرف المقاوم من ضعف بيّن وشرخ لا مثيل له من قَبْل. بالإضافة إلى مؤشرات الاستمرارية في سياسة تكتيك ‘ركوب الرأس’ والهروب إلى الأمام وتحدي مرارة الواقع الأليم بلغة عاطفية وخطاب حماسي لا يسمن ولا يغني من جوع!
ألا يمكن مثلا ابتكار فكرة تأسيس جيش مليوني من المتطوعين المستعدين للذهاب إلى ساحة الوغى؛ بُغية نيل خلود الشهادة؟! إذاً .. علام يصرخ الآلاف إن لم يكونوا مستعدين لنجدة إخوانهم في العروبة والدِّين والحق الإنساني؟! لماذا الأنظمة العربية والإسلامية- الأكثر استبدادية- ترتب حشد مأجوريها/موظفيها وتحولهم إلى الشارع؛ بُغية تبيان تأييد وهمي لنضال أهلنا في غزة في معركة تتفنن الفضائيات في نقلها، حيث لا يتوانون هؤلاء، وهم في نشوة غوغائهم عن رفع الأحذية (الوسيلة النضالية الجديدة للعرب)! وحرق الأعلام الإسرائيلية والأميركية وصور القائد الفلسطيني محمود عباس!
لعل الغائب الأكبر في المعادلة الحالية هو السلاح الأمضى والأقوى بما لا يقاس للمقاومة الفلسطينية أي وحدة الفصائل الفلسطينية والشعب الفلسطيني الذي يعاني انقساما وشرخا لا يمكن ترميمه بسهولة، بعد انقلاب حماس في 14 يونية ,2007 الأمر الذي حدا بالآلة العسكرية الإسرائيلية من العدوان ومكنها في إعادة المواقع الخاسرة سابقا (المادية والمعنوية) وسهّل لها تسجيل سيطرة واضحة على الأرض، حيث إن خطة الدولة العبرية تتلخص الآن في تفتيت القطاع إلى قطاعات ومدّ توغله الواسع وفرض شروطه، على رأسها اتفاقية دولية ملزمة بحظر إطلاق صواريخ المقاومة بجانب مراقبة المداخل والمعابر الحدودية بدقة. ليس أقل من هذا سيكون على الطاولة في انتظار حماس، المجبرة على توقيع صكّ الغفران!
ألا يجدر بنا التساؤل عن الجدوى من فرض قوى اليمين الديني الفلسطيني (حماس وجهاد) بالتحالف مع بعض القوى القومية/اليسارية المتطرفة خطتهم ‘التحررية’ لكامل الأرض الفلسطينية وانجرارهم إلى حسم المعركة في وقت غير مناسب ألبتّة والوقوع في شرك الفخ الإسرائيلي وإعلانهم لـ دعوة ‘جهادية’ شاملة، انطلاقا من عبثية الرؤية وقصورالبصيرة السياسية والحسابات الخاسرة، المتعلقة بانتهاء مهلة الهدنة (على هشاشتها) وتعليقها من طرف واحد، حيث تحول هذا الى الجحيم الذي حصد حتى الآن مئات من القتلى تجاوزت الـ 700 وقد تصل إلى الألف أو أكثر بجانب آلاف المصابين مقابل سقوط حوالي عشرة إسرائيليين، النسبة التي تجسّد بوضوح ميزان القوى المختل لصالح العدو الإسرائيلي (واحد إلى مئة)، إن لم نحسب الخسائر المادية/العمرانية. تجدر الاشارة في هذا الصدد أن الحكومة الروسية حذرت في حينه حماس مرارا وتكرارا – أيام قبل العدوان- وحثّتها بصدق أن لا تنهي الهدنة من طرف واحد، مما ينكشف الآن أنه كانت لدى الروس المعلومات الكافية لخطورة الوضع والاستعدادات الإسرائيلية الباحثة عن ذريعة للعدوان، لتصب نتائجه في مصلحة النّخب السياسية من الصقور، المتنافسين في الانتخابات الإسرائيلية المقبلة.
هل من الممكن بعد هذا الثمن الباهظ أن تتمكن القوى الجهادية والحماسية الفلسطينية من تعلم الدرس البليغ ألا وهو استحالة الاستمرار في خطاب العناد والتحدي، والاتكال على قوة السماء في حساباتهم العسكرية المادية والرهان على عضد الأنظمة والقوى الحليفة العربية والإسلامية والجماهير العربية للمجيء إلى نجدتهم؟! فالمطلوب – قبل كل شيء- التخلص السريع من الاستراتيجية الاستحواذية للسلطة والحلم الطوبوي/الخيالي في تشييد الإمارة ‘الإسلامية’ على أمل تشييد مثيلاتها في ديار الإسلام قاطبة في سبيل عودة الخلافة الإسلامية وانتشار رايتها الخفاقة في العالم أجمع! بجانب ضرورة الرضوخ إلى الحسابات العسكرية الدقيقة لميزان القوى المحلية والدولية والعودة إلى رأس الحربة الفعلية وصمّام الأمان للنضال الفلسطيني المتمثل في وحدة الصف الفلسطيني، السبيل الأمثل لإعادة اللّحمة للكفاح المشترك بعيدا عن الخلافات الايديولوجية والعقائدية.

صحيفة الوقت
10 يناير 2009