المنشور

أمنيات صغيرة

الأمنيات! تلكم هي الكلمة التي تحملها إلينا تعابير التهنئة بالعام الجديد.  في حضرة اللحظة الفاصلة بين عامين يتمنى الناس لبعضهم بعضاً الأمنيات السعيدة: أن يكون العام القادم أفضل من العام الآفل، أن تكونوا في صحة وسعادة، وأن تتحقق أمنياتكم!. الأمنيات! هي ما نحيا من أجله، حتى في أقصى لحظات سعادتنا نكون مسكونين بأمنية غالية هي أن تدوم هذه السعادة، أن تمتد وتستمر وألا تنتهي وتهرب من بين اليدين، حتى استعادتنا المُرة للحظات السعيدة التي عبرت في سنوات مضت هي معادل آخر للأمنيات، ورغبة حقيقية في أن يحمل المستقبل لحظات مشابهة لتلك التي عبرت، فاللحظات نفسها لا تعود. نهرب من رتابة الحاضر إلى المستقبل بالأمنية، والى الماضي بالذكرى، ونخاف على سعادة الحاضر فنتوسل بالمستقبل أن يحافظ على هذه السعادة، بأن يبقيها ويجعلها دائمة. في اللحظة التي تنقل من عام إلى عام يسكننا الهاجس الذاتي، الحميم والخاص جدا. أحلامنا الكبرى مؤجلة أو قابلة للتأجيل، لأنها أحلام عامة يشترك فيها الجميع، لكن ما من لحظة نأوي فيها إلى ذواتنا كتلك اللحظة، حين نكون في حال من الشفافية المرهفة أمام النفس، لحظة حاسمة من لحظات التمني والاعتراف بالرغبات الحقيقية التي قد لا يعرفها سوانا، ولا نملك المقدرة على الإفصاح بها لأحد آخر، وان أفصحنا فللشخص الوحيد الذي يعنينا أمره أكثر من سواه. لدى بعض الشعوب اعتقاد أشبه باليقين أن الطريقة التي نستقبل بها العام الجديد في لحظة انبلاجه هي التي ستحدد الحال الذي سيكون عليه عامنا الجديد. إن كان مزاجنا سعيداً في لحظة هذا الانبلاج فان السعادة ستغمرنا في شهور العام التالية، وان كان المزاج مشوباً بالحزن أو القلق فان عامنا الجديد سيحمل شيئا من ذلك.  لكن الناس إزاء الرغبة في السعادة يغلبون التفاؤل دائماً، يغلبون الرغبة في أن هذه السعادة في الانتظار عند أحد مفارق الآتي. من طبيعة الإنسان أن يكون نابذا للتشاؤم والكآبة، حتى أشد الناس ميلاً للحزن يحملون في ذواتهم رغبة حقيقية أشبه بالثقة الغامضة في أن الحياة ستكافئهم بأيام سعيدة. في لحظة انبثاق عامٍ جديد ومغادرة عام أصبح ماضياً نأوي إلى ذواتنا، نصغي برهافة إلى نداء أرواحنا، إلى أعمق وأصدق رغباتنا، وليس من رغبة أصدق في النفس من أن نكون إلى جوار من نحب أو نظل إلى جواره. ما أقسى الفراقات! ما أقسى أن يؤخذ نصف روحنا إلى مكانٍ ويترك نصفه الثاني في مكان آخر. في اللحظة الفاصلة، الواصلة بين عامين ما من أمنية تُحلق في سماء الروح سوى تلك الأمنية العميقة الصادقة بأن لا يفترق الأحبة، بألا تطوح بهم الدنيا بعيدا، وفي أن يظل شملهم مُلتماً. هي أمنيات صغيرة .. ولكن أصدق وأعمق الأمنيات هي الأمنيات الصغيرة.
 
صحيفة الايام
10 يناير 2009