المنشور

التوراة والحرب

ليس ثمة تجارب وآراء عسكرية كبيرة في التوراة، فالقبائل اليهودية قبل ألفين وأكثر من السنوات كانت قبائل صغيرة ليس ثمة إمكانية لحضورها على مسرح الأمم وقتذاك، مثلها مثل قبائل أشقائها العرب، القبائل القيسية، الذين انحدروا جميعاً من منطقة سواحل بحر قزوين.
ولهذا فإن التسمية للمجموعتين العرقيتين: عبرانيون وعرب، المتقاربة، توضحُ النشأة المشتركة، وكذلك عودة المجموعتين للجد المشترك النبي إبراهيم كما تؤكد الوثائق المقدسة لكلا الشعبين الكبيرين.
وفي حين توجهت القبائل اليهودية إلى السكن في بلد الآراميين والكنعانيين؛ وهي فلسطين وما حولها، ثم هاجر بعضٌ منها لمصر الزراعية الغنية، فإن القبائلَ العربية توجهت لشمال الجزيرة العربية، في هذه المنطقة الأوسع، والخالية من الامبراطوريات الكبرى.
فحدث مصيرٌ مغايرٌ للشعبين، واكتسبَ كلٌ من الرافدين تقاليد عسكرية مختلفة، ففي حين وجدت القبائل اليهودية نفسها في عبودية وأشغال شاقة في مصر وعدم القدرة على تكوين جيش، فإن العرب صاروا قبائل حرة وذات انتشار وتقاليد عسكرية متجذرة في تلك الصحراء المترامية الأطراف.
ولهذا كانت القصص والعبارات العسكرية في التوراة تقوم على حفز اليهود للقتال، وعدم تأهلهم للحرب، وتنقد ذوبانهم في الأمم الأخرى، وتحضهم على التفرد وكره الأمم الأخرى والانعزال عنها. فهم شعبٌ صغيرٌ والأمم الأخرى كثيرة الأعداد، وحتى حين اقتربوا من الأرض (الموعودة) فلسطين، احتاجوا إلى وقت طويل للتسلل إليها، ولم ينجحوا في السيطرة عليها إلا بعد تفكك الحضارة الكنعانية التي ورثوها فقد كانت أكثر تطوراً منهم وقد استعاروا تقاليدها وطرق تجارتها وتحديثها،، ومع هذا لم يستطيعوا الحفاظ على المملكة اليهودية التي تقسمت إلى مملكتين ثم سُحقتا.
وهذا لا يعود فقط للأعداد المحدودة لليهود قياساً بالأمم السابقة العريقة بل للموقع الذي أصرت اليهودية على البقاء فيه، وهو أرضُ فلسطين.
فهذه الأرض الصغيرة عموماً دُشنت في العقلية اليهودية كمكانٍ مقدسٍ أزلي للعبرانيين، بسبب هجرة الآباء المؤسسين لليهودية نحوها، وعدم قدرتهم على تكوين دولة فيها، فبدا ذلك كحلمٍ توشج مع تلك القصص الدينية الكثيرة والكثيفة للآباء والأنبياء.
وفي حين كان العرب في أمية وينحدرون أكثر وأكثر في البداوة في الصحارى العربية ويتحولون إلى قوة ضاربة عسكرية كبرى، كان اليهود يتفاعلون مع الحضارات في الشمال، ويؤسسون عبر دولتهم وبعد تحطيمها وأسر الكثير منهم في المعتقل البابلي، ثقافة دينية متأصلة استفادت وتأثرت وحورت الكثير من التقاليد والأفكار المصرية والعراقية القديمة الوثنية. لكنهم يحافظون على المعتقل أو الجيتو وعلى التقوقع وعدم الرغبة في الانفتاح على الأمم خوفاً من الذوبان، إلا إذا آمنت الشعوب بهم وذابت في تقاليدهم.
فكانت التقاليد العسكرية قليلة في هذا التراث المشغول بالهجرة والنفي وأحلام العودة لأرض الميعاد.
وما صعّد اليهود عالمياً هو تبنيهم لطرق التجارة المالية والصرافة المنتشرة بين الكنعانيين، وتحويلها إلى تقاليد شعبية مقدسة، تطبق على الأمم الأخرى ولا تطبق على اليهود.
فعبر أسر قليلة والتوجه للأرباح وعدم تكوين دولة كبقية الأمم والاصرار على العودة لأرض الميعاد فلسطين عبر ألفي سنة من الشتات، أخذت الأحلامُ الاجتماعية لهذه الجماعات اليهودية في التفتح في الغرب الذي جعل اليهودية المصرفية الاستغلالية هي حياته اليومية، فتبناها مادياً ورفضها روحياً.
وقد خاف زعماء اليهودية الغربية من هذا الذوبان للجاليات اليهودية المختلفة في الغرب المتوجه للمساواة بين المواطنين بشكل عام، وإبعاد الأديان عن الحياة السياسية، فقلت الفروق بين اليهودي والمسيحي، اللذين صارا مواطنين شكلياً على الأقل. لأن الجذور المسيحية بقيت في الغرب قوية ومسيطرة لأسباب اجتماعية كبيرة.
هنا تحقق لفكرة العودة لأرض الميعاد فلسطين إمكانية تحويل الجيتو اليهودي إلى دولة، وجعل الجماعات التي كانت تحن للأرض المقدسة في الخيال المستمر بأن تضع أقدامها على أرض حقيقية وهي مليئة بالذكريات والرموز.
كانت هذه هي دكتاتورية الكبار في تلك الجماعات الخائفة من الديمقراطية والعلمانية الغربية.
وقد جاء ذلك كله مع صعود الهتلرية التي استغلت الوجود اليهودي لأفكارها العنصرية، فاجتثت الملايين منهم وغدت بالنسبة إليهم مثالاً مكروهاً بغيضاً، ولكن غدت كذلك نموذجهم الباطني المرغوب فيه، فالقوة العظمى الباطشة القوية ذات الانتصارات الكاسحة تغدو كذلك مصدر إعجاب للضعفاء المحطمين والمهمشين.
خاصة أن اليهود لم يشهدوا تجربة عسكرية كبيرة لهم، وافتقدوا في منعزلاتهم الأشكال السياسية والفكرية الديمقراطية.
فجاءت التجارب العسكرية اليهودية على أرض فلسطين محتفية بتلك التقاليد الهتلرية، من أساليب القمع والعقاب الجماعيين، إلى استخدام أساليب (الصاعقة) وهي فرق ألمانية نازية اعتمدت أسلوب الحرب المفاجأة مع ضربات شديدة للخصوم.
في ألمانيا وإسرائيل المعاصرة كانت الدولتان وسط جمع أممي معاد لهما، فاعتمدت كلاهما على الحرب الخاطفة، أو على زرع الشقاقات الكبيرة بين الخصوم، واستفراد كل على حدة، وعلى القول بالعنصر المتميز المغاير لعامة البشر الأقل رقياً، وعدم التمييز بين العسكريين والمدنيين واستخدام أساليب الإبادة، وعدم جعل النساء والأطفال والشيوخ خارج الصراع.
وذلك بسبب المصدر القومي الاجتثاثي المتعالي على البشر، فوجدت إسرائيل نفسها أنها تهاجم هتلر في كل مناسبة ولكنها تطبق تقاليده السياسية والحربية، نظراً لوحدة الأصل الاجتماعي، وفكرة المجال الحيوي وحياة الغزو.
 
صحيفة اخبار الخليج
9 يناير 2009