المنشور

اليسار والإسلاميون.. والثورة الحسينية (2-2)

ليس المناضل الوطني والقائد اليساري العراقي عبدالرزاق الصافي الذي تناولناه يوم أمس، كنموذج في انسجامه وعدم تعاليه او اغترابه عن ثقافة شعبه الدينية والشعبية، سوى واحد من نماذج يسارية وعلمانية عربية عديدة عرفت باعتدالها العلماني ورؤيتها الواقعية للموروث الديني. ومن تلك النماذج العديدة نذكر على سبيل المثال المفكر اللبناني التراثي الراحل حسين مروّة والذي يمكننا ان نقرأ في كتابات له او حوارات صحفية معه ذلك التعاطي والانسجام مع ثقافة الجماهير الدينية واحترامها ان لم يكن الايمان بها، وكذلك المفكرين والمثقفين المصريين محمود أمين العالم، ومحمود اسماعيل، وعبدالرحمن الشرقاوي، والمفكر السوري طيب التيزيني، وغيرهم.
وعلى سبيل المثال فمثلما عبر الصافي عن كيفية تأثره العاطفي بسيرة استشهاد الامام الحسين “ع” كما تروى بأسلوب مؤثر من قبل خطباء المنبر الحسيني في مجالس كربلاء، فإن مروة لم يجد في انتمائه لليسار أي خجل “علماني” أو عقدة تحول دون البوح والصدق مع النفس في الايفاء بالانسجام مع موروثه وثقافته الدينية التي جبل عليها. ومن ذلك استمرار شغفه، حتى بعد انتمائه للفكر الاشتراكي، بسماع تلاوة القرآن مرتلا ترتيلا عذبا من قبل مشايخ مشاهير الترتيل العرب.
ولما كان من المعروف ان مروة ابن لرجل دين من الجنوب اللبناني فإننا نجده يتحدث في احد الحوارات معه عن اعتزازه واعترافه بدور التربية الدينية الاسرية ليس في صقل وسمو شخصيته الاخلاقية بل تفرد هذه التربية مبكراً في الابتعاد عما يسيء للوحدة الدينية الاسلامية: “اورثتني تربية الوالد حياء مقيماً، لكنها تركت في خصالاً حميدة منها عزة النفس والترفع عن الدنايا والتورع الخلقي عن كل ما يدنس النفس ويشوب سيرة المرء وسلوكه وتهذيب النفس واللسان، فأنا حتى اليوم لم تجر شتيمة على لساني، وقد انتقل هذا مني الى اولادي. اذكر في هذا الباب اننا اقمنا في حي سني في العراق فكان أهله يستغربون من ان أياً من اولادي لا تجرى على لسانه شتائم لبعض الصحابة مما كان دارجاً على ألسنة اترابهم الشيعة في ذلك الحين. وقد ساقهم هذا الى الظن بأننا من أهل السنة” انظر حسين مروة، “ولدت شيخاً وأموت طفلاً، دار الفارابي” بيروت 1990م.
ومثل هذا التواضع والاعتزاز بالموروث الديني نجده ايضاً لدى محمود امين العالم حينما يتحدث عن جوانب من سيرته الشخصية والعائلية في بعض الاحياء الشعبية بالقاهرة القديمة التي تربى وترعرع بين ازقتها وحاراتها.
ومن المفارقات الغريبة غير المفهومة أنه بقدر اعتزاز واحتفاء عدد من القوى والاحزاب اليسارية التي ينتمي إليها هؤلاء المفكرون بعطاءاتهم الفكرية ومؤلفاتهم التراثية، فانك لا تجد ترجمة لهذا الاعتزاز في اجندة وبرامج وفعاليات تلك القوى والاحزاب.
وأتذكر بأني اشرت غير مرة، هنا في هذه الزاوية، قبل سنوات خلت الى أن ثمة مظهرين من مظاهر هذه الازدواجية والمفارقات في التعاطي مع التراث الديني: الأول يتمثل في رفض هذه القوى والاحزاب الدؤوب احياء المناسبات التاريخية الدينية العظيمة، كالمولد النبوي الشريف، وكذكرى عاشوراء، في حين لا تتردد هذه القوى والاحزاب عن احياء المناسبات التاريخية الخاصة برموزها ورموز تيارها الفكري الكبيرة.
اما المظهر الثاني فيتمثل في حرص هذه القوى والاحزاب على اسباغ آيات التبجيل السياسي وألقاب الاحترام لرموز تيارها ومفكريه على نحو: “المناضل العظيم”، “الرفيق القائد”، “المفكر الخالد”.. إلخ، ومقتها في المقابل ذكر الرموز والشخصيات الدينية المقدسة او الاشارة إليها متبوعة بألقابها الدينية المتعارف عليها لدى الناس والنخبة الدينية. علماً ان الرموز الدينية والتاريخية الكبيرة، سواء من أنبياء او ائمة او صحابة، جميعها قامت بأدوار استثنائية دينية وتاريخية في الثورات والاصلاحات الاجتماعية تبعاً للظروف التاريخية الاجتماعية في العصور التي عاشتها. ومن هنا تتبوأ الثورة الحسينية مكانتها الدينية والتاريخية ليس لدى المسلمين على اختلاف مذاهبهم فحسب، بل لدى سائر الديانات والطوائف الدينية والثقافات الاخرى كملهمة في التضحية والبطولة والفداء من اجل الاصلاح السياسي والاجتماعي ومواجهة الاستبداد واقامة العدالة.
ومن هنا فكم هو جميل لو أقامت جمعياتنا السياسية، سواء على المستوى الذاتي الداخلي ام على مستوى التعاون المشترك، مهرجانا سنويا في موسم عاشوراء حول هذه الذكرى الثورية الدينية العطرة تلقى فيه الكلمات والقصائد المختلفة، ناهيك عن الاعمال الفنية الاخرى لما لهذه الفعاليات في هذه المناسبة الدينية الجماهيرية من معانٍ وحدوية ومشاطرة وجدانية لمختلف فئات جماهيرنا في شتى مناسباتها العامة وعدم التعالي عليها.
ولعل من المناسب في هذا الشأن الاشارة الى ما خلص إليه الباحث التراثي الوطني التقدمي العراقي رشيد خيون في احدى دراساته “أرى انه ليس من الحق تعطيل الذاكرة الشعبية بإلغاء الاعياد ومجالس الاحزان، كما ألغى خلفاء عباسيون الاحتفال بأعياد نيروز، ومنهم من حاول استبداله بنيروز سماه على اسمه او الغاء احتفالات العزاء الحسيني بأرض العراق، مهد ذاكرتها، او مجالسها الصوفية. كل ذلك يُعد تجاوزاً خطيراً على العاطفة الشعبية. لكن الحق ان ترشد وتهذب، حتى تكون بإطارها التاريخي الحضاري، وبطقوس روحية تعبر عن أفراح واحزان الارض والانسان بما يناسب روح العصر”، انظر مجلة الثقافة الجديدة العراقية، ايلول 1998م.
واعتقد أن بعض الجمعيات والتيارات السياسية الوطنية لديها كتابها ومثقفوها الكبار الذين يمكن ان يقدموا اسهامات ورؤى متميزة في هذه المناسبات استناداً لقراءاتهم ودراساتهم المعمقة للتراث الديني (نذكر على سبيل المثال في هذا الشأن الزميل والصديق عبدالله خليفة).
ولئن كان ثمة رهط غير قليل من مثقفي ومفكري اليسار العربي الذين تميزوا بانسجامهم مع تراث امتهم الديني وعدم تعاليهم عليه او على ثقافة شعبهم الدينية او ازدرائها فإن الامانة الموضوعية في المقابل تقتضي القول ان ثمة نفرا من مثقفي وكتاب الاسلام السياسي ممن يكنون التقدير والاحترام لعطاءات ورموز اليسار في هذا الجانب او ذاك الجانب. ويحضرني هنا في هذه اللحظة على سبيل المثال ما كتبه في “السفير” العلامة والمفكر الاسلامي محمد حسن الامين عن عطاءات نجيب محفوظ مستنكراً محاولة اغتياله مطلع تسعينيات القرن الماضي، وما كتبه قبل فترة وجيزة السيد محمد حسين فضل الله من مرثية عن رحيل محمود درويش، وهذه مجرد نماذج من نماذج عديدة. فهل نأمل في ذكرى عاشوراء المقبلة ان نرى ترجمة حية ملموسة لانفتاح التيارات الاسلامية والتيارات الوطنية على بعضها بعض في مثل هذه المناسبات الدينية التاريخية الكبرى؟

صحيفة اخبار الخليج
7 يناير 2009