المنشور

وحدة الدم والنار

برغم أخطاء حماس والقوى الطائفية عموماً وتمزيقها للصفوف العربية والإسلامية، وجهلها بقوانين النضال في الإسلام والعصر الديمقراطي الحديث، فإن الوقوف العسكري مع غزة ضروري ومهم للغاية من أجل تكسير الآلة الحربية العدوانية وإحداث شروخ متسعة دوماً في المجتمع الإسرائيلي بين قوى العدوان وقوى السلام.
ما يحدثُ من عنفٍ وانفعالات حادة وتطرف كان دائماً لمصلحة القوى المتطرفة العسكرية والسياسية الإسرائيلية، التي هي موحّدة وذات قوى عسكرية وسكانية كبيرة، وقادرة على توجيه النيران بدقة واستغلال نقاط الضعف في الخصم غير المتوحد والانفعالي.
إن مظاهرات الاحتجاج مهمة للغاية لكن إذا توجهت للمكان الخطأ وأحدثت الاضرار في الدول العربية وراحت تمزق الصفوف العربية فهي تضيف هدية أخرى للعدوان.
كان الفيتناميون في مجابهتهم لأكبر قوة عسكرية في العالم وهم الشعب الصغير الفقير يلجأون بالإضافة إلى المقاومة الباسلة العسكرية المتعددة الأشكال، إلى أساليب بسيطة يستطيع أن يقوم بها كثيرٌ من المواطنين المتميزين وهي كتابة الرسائل للمواطنين الأمريكيين وحثهم على التظاهر في مجتمعهم لكي ينددوا بالعدوان الأمريكي.
وقد فعلت هذه الوسيلة فعلها الكبير، ومن مظاهرات صغيرة بالمئات تدفق الملايين بعد عدة سنوات وحاصروا البيت الأبيض وشلوا فاعليته عن قصف فيتنام.
ما أبسط هذه الوسيلة! لكنها كانت أقوى من وسائل عنفية مرفوضة للفيتناميين وهي حرق السفارات والأعلام والاعتداء على المواطنين الأمريكيين غير المشاركين في الحرب، فكانت أي قنبلة ولو صغيرة يوجهها فيتنامي داخل أمريكا ويصيبُ بها مواطنين أمريكيين تغدو كارثة للمقاومة، لكن أي فيتنامي خلال تلك السنوات الطويلة الضارية لم يقم بتحطيم مصباح واحد في أمريكا أو أن يرسل قنبلة، أو أن يقوم حتى بحرق العلم الأمريكي، رغم أمطار القنابل التي كانت تنهمر فوق رؤوس الشعب الفيتنامي شماله خاصة وجنوبه!
لم يُحرق العلم الأمريكي من قبل الفيتناميين، فالعلمُ الأمريكي ليس هو علم الجيش والإدارة الحكومية بل هو كذلك علم الملايين من الشعب الأمريكي، وكلما حدث حرق الأعلام توجه جانبٌ من السكان الأمريكيين للعدوان وللجيش والإدارة الاجرامية!
حرق الأعلام والاعتداء على السفارات والأبرياء والسكان المسالمين هي وسائل الضعفاء السهلة وغير العقلانية والمؤثرة على تخريب العلاقات بين الدول، وتقوية إسرائيل وحكومات الولايات المتحدة، فهي وسائل تضيف للمعتدي قوة ويهتم بها أولئك أشد الاهتمام ويفرحون بحدوثها!
ما نريده داخل المجتمع الإسرائيلي هو تفكيكُ سكانه وعزلُ قسمٍ كبير منه عن مساعدة الجيش والإدارة الحكومية الاجرامية، فكلما حدثَ انقطاعٌ من السكان عن دعم الجيش وعلى التمرد داخل صفوفه وتعاظمت حركة السلام واليسار والديمقراطية داخل المجتمع ككل، تم شل يد العدوان الآن ومستقبلاً.
أنت حين تحرق علم أي دولة فإنما يصوره الجيش والإعلام ويقدمه للسكان البسطاء والجهلة والمفعمين بالتعصب كذلك، ويقولون لهم هاكم العرب يريدون قتلكم جميعاً وحرق دولتكم، ليزدادوا تعصباً وقتلاً ضد اخوتك هناك. وينضمون للجيش بحماس ليقتلوا العرب!
لقد وحدت حماس المجتمع الإسرائيلي ضدها بسبب العمليات الانتحارية، ولعدم فهم قوانين النضال، ثم فككتْ صفوفَ الشعب الفلسطيني ومنظمة التحرير، فأقيمت حكومتان متصارعتان استنزفتا الشعب الممزق والفقير، فتشكلت سياسة إسرائيلية لعزل حماس وضربها بسهولة، لكن لا يجب الرد على ذلك بتركها تحرق والشماتة بها والرغبة في إزالتها!
ومن هنا يجب اللجوء إلى أساليب المقاومة الإنسانية الأكثر فاعلية والبعيدة النظر.
لقد صارت أجهزة الإنترنت ميداناً لمعركة كسب الصفوف وشل يد المجرمين عن القتل.
ولو كانت هناك حكومة حمقاء فلسطينية لأعلنت الحرب ومزقت خطوات السلام، ولكن الرئيس عباس والحكومة الفلسطينية لم يفعلا ذلك، بل استخدما أدوات النضال التي في حوزتهما، ووجها القوى السياسية الفلسطينية للوقوف المشترك في الخنادق والشوارع مع المقاتلين في غزة.
ويحتاج ذلك أيضاً إلى مزيد من تدفق المقاتلين على جبهة القتال لكي تتكسر الآلة العسكرية الإسرائيلية وكلما كثرت النعوش الذاهبة كان ذلك أبلغ تأثيراً في الأمهات والآباء لكي لا يؤيدوا سياسة عدوانية مثل تلك، ودون أن تنقطع سياسة السلام كذلك، ومخاطبة الرأي العام الإسرائيلي، وهزيمة الفوضويين والمتطرفين في الجانبين.
إن المغامرين وأهل الحرق والفوضى يخربونها ثم يجلسون على تلتها، نادبين صارخين كما فعلوا في قرار تقسيم فلسطين وإهدار الفرص الكبيرة الكثيرة على مر التاريخ، وفي كل فترة يعطون الإسرائيليين مساحة جديدة من الأرض ثم يصرخون ويشتمون ويتباكون ويحرقون ثم يقدمون تنازلات جديدة حتى لم يبق لديهم سوى أرض محدودة تتقلص كل يوم، ولكن جيش الانقاذ لم يأتِ!
إن الدروس كثيرة على الجماعات الدينية المتطرفة والقومية الشمولية التي لم تتعلم شيئاً خلال عقود من السنين، وكانت عباراتهم الثورية جداً من الأسباب التي قادت إلى الهزائم، وكذلك لأن الدول والجماعات السياسية المسئولة لم تتخذ مواقف قوية منذ البداية تجاه هذه الجماعات الفوضوية وغير المسئولة، وانزلقت إلى مواقفها وقادها ذلك إلى كوارث، ففتح تجري الانتخابات ليس على أسس الحداثة والعلمانية والديمقراطية، بل على نفس أسس المجتمع الطائفي الشمولي، ثم تفاجأ بالنتائج ويقود هذا إلى كوارث رهيبة يذهب المواطنون الأبرياء ضحايا لها.
هل تتعلم الدول والجماعات السياسية شيئاً من الأحداث؟
إنها لا تتعلم شيئاً إلى أن يأتي الخراب الشامل ويظهر أناسٌ جدد يشكلون سياسات مختلفة.

صحيفة اخبار الخليج
7 يناير 2009