المنشور

هزيمتان إسرائيليتان في أقل من ثلاث سنوات


لا أستطيع توقع النتيجة العسكرية للعدوان الإسرائيلي الجديد المتمثل في محرقة الإبادة ضد شعبنا الفلسطيني في غزة. لكنه منذ الآن يمكن القول أن إسرائيل تكبدت هزيمتين ماحقتين في أقل من ثلاث سنوات من عهد إيهود أولمرت. الأولى بنتيجة الحرب الظالمة على لبنان صيف العام 2006 التي بددت أساطير كثيرة عن إسرائيل الكلية القدرة. لكن المكون الأكبر في هزيمة العام 2006 كان في الدمار النفسي الهائل الذي لحق بالمجتمع الإسرائيلي والذي لا يزال يعاني منه إلى اليوم.
الهزيمة الثانية هي التي تتبين ملامحها في الحرب الجارية في غزة الآن. وهي هزيمة؛ لأنها مهما كانت نتيجتها فهي في إطار التكتيكات السياسية وليس الإستراتيجية في البحث عن حل لمشكلة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. لكن المكون الأساسي في هذه الهزيمة هو أيضاً تعمق ذلك التدمير النفسي الذي بدأت تلحقه في المجتمع الإسرائيلي علاوة ما ألحقته الحرب على لبنان. يقول الصحافي في جريدة ‘لوبوان- Le Point’ الفرنسية جان غيسنيل إن ‘الوضع ازداد سوءاً في الفترة الأخيرة، حيث إن الاستخبارات الإسرائيلية نشرت معلومات بأن حماس تمتلك الآن صواريخ أبعد مدى من السابقة ذات العشرين كلم[1]. وأثبتت الأيام القليلة الماضية أن مداها قد تخطى ذلك’. غير أن صحيفة ‘هارتز – Haaretz’ الإسرائيلية أشارت إلى أن الإسلاميين قد يصبحون قريباً قادرين على إطلاق صواريخ يبلغ مداها 70 كلم لتصبح تل أبيب نفسها هدفاً مباشراً.
يختلف المحللون بشأن إمكان دخول إسرائيل في مغامرة الاجتياح البري. لكن المعطيات تشير إلى أن اجتياحاً لمسافات معينة محتمل جداً، لكن ليس الآن بالضرورة. فالانطباع الذي خرج به غينسيل هو أن الجنرالات الإسرائيليين غير ميالين للإمعان عناداً في أخطائهم السابقة بالشعور بزهو الانتصار منذ بداية الحرب على لبنان صيف العام 2006 .  إنهم الآن يدمرون بشكل منظم كل المباني التي يعتقدون بأنها تمثل نقاط ارتكاز لحماس، بدءاً من قتل أكبر عدد ممكن من قادة المنظمة وموظفي أجهزة الأمن. ‘هذه الحرب لن تنتهي قريبا’ – يختم غيسنيل مقالته[2]. كما أن حماس تؤكد على أن المفاجآت الحقيقية للإسرائيليين لم تأت بعد.
لست من أنصار حماس لا فكراً ولا سياسة، ولا ممن يتمنون أن يبقى مصير شعبنا الفلسطيني في غزة رهن النزعة المغامرة لقادة كهؤلاء. لكن المسألة هي أن نزعة التطرف هنا تقابلها حالة أخطر من التطرف في الجانب الإسرائيلي. حيث إن كل الأمور تقرأ الآن إسرائيلياً في سياق السباق نحو الانتخابات التي ستجري في 10 فبراير/ شباط المقبل، بما في ذلك القرار بشن الحرب الحالية. وقد كشف جريف ويت في صحيفة ‘The Washington Post’  أن قرار الحرب قد اتخذ من قبل ثالوث هش في لقاء سري ضم وزير الدفاع إيهود باراك، رئيس الوزراء إيهود أولمرت ووزيرة الخارجية تسيبي ليفني. وأن هذا القرار وجد كل التأييد من قبل بنيامين نتانياهو الواقع خارج السلطة الآن. وإذا كان أولمرت يتصرف كلاعب القمار، فإما أن ‘يغسل’ عن وجهه عار هزيمة لبنان ‘بنصر’ في غزة، وإما أن يخرج من السلطة بالعارين معاً، فإن كلاً من الثلاثة الآخرين يسعى لتجميع مزيد من نقاط الثقل السياسي عن طريق إلهاب هذه الحرب.
ما الذي يفسر التقاء تكتيكات الأعداء ‘الانتخابيين’ الإسرائيليين في مغامرة واحدة؟ وما الذي يجعل الإسرائيليين عموماً يؤيدون بغالبية ساحقة، حتى الآن على الأقل نزعة المغامرة التي لا يرى أحد من المراقبين الحصيفي الرأي من مختلف العالم غير آفاق مظلمة ستجرها على كامل المنطقة؟
الكاتب خوسيب رامونيدا يجيب في صحيفة ‘البايس – El Pais’ الإسبانية كتب محذراً اليهود من الجذر العنصري في وعيهم القومي ? الديني قائلاً ‘ما يلحق الضرر باليهود هو الوعي الملازم لهم بأنهم شعب الله المختار، الذي يقوم عليه اعتقادهم بأن قتل إسرائيلي واحد يبرر قتل 100 فلسطيني[3]’. ورغم أن الكاتب لا يذهب إلى حد مطابقة جرائم الإسرائيليين الشنيعة بالمحرقة النازية، إلا أنه يرى بأن هذا الوعي قد هيأ لأن توجد وتفّعل باستمرار آلية متكاملة للتدمير الدائم والمنظومي للشعب الفلسطيني. وفي إشارة إلى أن هذا التدمير يحمل في أحشائه تدميراً ذاتياً للمجتمع الإسرائيلي نفسه، يسجل رامونيدا في مقاله المعنون ‘شرف إسرائيل’ موقفا مهماً إذ يقول ‘.. وإنه ليتهيأ إلي أحياناً بأن غلطة الشعب اليهودي الكبرى كانت في إقامة دولة إسرائيل. وبهذا فهو ربما فقد القسم الأعظم من نفوذه. لقد حصل على سلطة ووطن محدد على الأرض، لكن الثمن أصبح باهظاً بالنسبة للجميع(4)’.
لا شك أن العنصرية الصهيونية أكثر تكلساً من الفكر ‘الحماسي’ المتزمت. ورغم أن قائد المكتب السياسي لحماس ظل حتى فترة قريبة يتهم الرئيس الفلسطيني محمود عباس بأنه ‘لم يفهم لحد الآن أن القوة وحدها هي التي ستجبر إسرائيل على الموافقة على إعلان الدولة الفلسطينية في أراضي ,’1967 إلا أنه -وكأنه قد أدرك قبل 24 ساعة على نشوبها أن الحرب على غزة وشيكة- قال للناشر والكاتب والناشط الاجتماعي ماريك هالتز في لقائه معه الذي نشر في صحيفة ‘لا ريببليكا ?La Repubblica’ الإيطالية: ‘لو أن هابيل تحدث مع قابيل لما كان قتله[5]’.
وإجمالاً، إذا كانت حماس لم تقبل بتمديد الهدنة، وأن القادة الإسرائيليين رأوا في شن الحرب فرصتهم السانحة لتحقيق أغراض انتخابية، فإنه يبقى صحيحاً القول بأن رقصة الموت تحمل خطراً مزدوجاً يتمثل في تصاعد النزعة الإسرائيلية المغامرة نحو احتلال غزة بالكامل، غير أن هذه الحرب لن تساعد بأي شكل على حل النزاع، بل ستؤجج مزيداً من الكراهية وتمهد الأرض من أجل استمرار تعزيز قوة حماس.
وإذا كان المسؤولون الإسرائيليون كثيراً ما يرددون هذه المرة بأنهم في سعيهم لاجتثاث حماس، فإنما يحققون رغبة بعض البلدان العربية أيضاً، فليعلم القادة العرب بأن تكتيكات الإسرائيليين اقتضت مرة تقوية حماس في وجه فتح، وفي التاريخ دروس. الأهم من التخلص من حماس هو وقف سيل الدم الفلسطيني قبل أن تمتلئ المستشفيات العربية المتضامنة بالضحايا’.

[1]، [2] صحيفة ‘لوبوان – Le point’ الفرنسية، 30 ديسمبر/ كانون الأول .2008
[3] صحيفة ‘البايس- El pais’ الإسبانية، 30 ديسمبر/ كانون الأول .2008
[4]، [5] صحيفة ‘لا ريببليكا – La repubblica’ الإيطالية، 26 ديسمبر/ كانون الأول .2008

 
الوقت 5 يناير 2009