المنشور

رحيل “هنتنجتون”.. والعدوان على غزة؟

لربما مشيئة الأقدار والمصادفات وحدها، هي التي جعلت من رحيل واحد من كبار مخططي ومنظري السياسة الخارجية الأمريكية الذين برزوا على وجه الخصوص بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة في مطلع تسعينيات القرن الماضي يحمل مغزى في توقيته غير خافي الدلالة، حيث جاء هذا الرحيل عشية اليوم الذي شنت فيه قوات الاحتلال الصهيوني عدوانها الوحشي الغادر على سكان قطاع غزة المدنيين في 27 ديسمبر الماضي، باسم القضاء على منظمة حماس “الارهابية”.
 اشتهر المنظر السياسي الأمريكي الراحل صمويل هنتنجتون بمؤلفه الشهير الذي صدر غداة انهيار الاتحاد السوفييتي، وتحديداً عام 1996م والموسوم “صدام الحضارات” حيث لخص فيه فكرته التنظيرية التنبؤية لشكل ومحتوى الصراعات الدولية والعالمية الجديدة المقبلة بعد انتهاء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق بأنها صراعات لن تقوم على أسس ذات جذور ودوافع أيديولوجية او قومية، بل لأسباب دينية وثقافية ناجمة عن تصادم وتناقض الحضارات الكبرى القائمة في العالم، ومن ثم فإن الحضارات وليست الدول القومية القائمة هي التي ستكون اللاعب السياسي المركزي في القرن الحادي والعشرين.
كما كانت لهنتنجتون تنظيرات سياسية أخرى ذات نزعة عنصرية بتحذيره من مخاطر المهاجرين، وكان يرى في الستينيات بأنه ليس بالضرورة أن يفضي التقدم الاقتصادي والاجتماعي التحديثي الذي يجري في البلدان المستقلة إلى قيام ديمقراطيات مستقلة فيها.
ولم تكن فكرة وتحليل الصراع الدولي الجديد القائم على الصراع الديني الحضاري قد تبنتها بوضوح وبشكل علني رسمي خطط السياسة الخارجية الأمريكية سواء في عهد الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون ام في عهد الرئيس الجمهوري جورج بوش الابن الموشكة ولايته الثانية على الانتهاء.
لكن عملياً كان مخططو وراسمو السياسة الخارجية الأمريكية الجديدة يتبنونها ويأخذون بها، ويعتبرون الدين يلعب دوراً محورياً في صراعات المستقبل، وينبغي تجيير المنظمات الدولية لخدمة مصالح الغرب وفق هذه الحقائق الجديدة، وينبغي أن تصدر قرارات هذه المنظمات في صورة معبرة عن إرادة المجتمع الدولي شكلياً، وان لا أمل في تحول مجتمعات البلدان الإسلامية إلى العلمانية، وان ما يميز هويتها هو “الإسلام الأصولي”، وان الصراعات العسكرية بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية استمرت قرونا وستستمر أكثر ضراوة مستقبلاً، وان الازدياد السكاني للعالم الإسلامي سيسبب المزيد من المشكلات لأوروبا لما يترتب عليه من زيادة في هجرات المسلمين صوب الغرب.
ولعل هنتنجتون هو المنظر السياسي الثاني الأبرز في طرح نظريات جديدة لتبرير الحملات والصراعات الجديدة التي تقودها أمريكا بعد انتهاء الحرب الباردة بغرض تزييف حقائقها إلى جانب المنظر الأول “فوكو ياما” الذي أعلن نهاية التاريخ بنهاية الاتحاد السوفييتي، بمعنى أن التاريخ العالمي انتهى بسيادة النظرية الرأسمالية وفشل النظرية الشيوعية او الاشتراكية.
لكن كلتا النظريتين اللتين طرحهما كل من هذين المنظرين الأمريكيين تواجهان الآن اختباراً حاسماً لستر تهافتهما الصارخ أكثر من أي وقت مضى، فلئن صح انه لم تقم حتى الآن قوى عظمى جديدة ندة لأمريكا تقوم على تجديد الفكر الاشتراكي، فإن النظرية الرأسمالية نفسها في ضوء ما تمر به نماذجها الكبرى، وعلى الأخص النموذج الأمريكي من أزمة مالية طاحنة، طاول شررها كل بقاع العالم من دون استثناء تواجه تحدياً استثنائياً تاريخياً في إثبات أنها النموذج الإنساني المثالي الأرقى القادر على الصمود من دون هزات أو أزمات تعصف بالسواد الأعظم ليس في بلدان العالم الثالث بل داخل المجتمعات الرأسمالية نفسها.
اما نظرية صدام الحضارات لهنتنجتون فقد أثبتت تطورات الأحداث هي الأخرى كما ذكرنا، زيفها وتهافتها بامتياز، فالحرب على الإرهاب التي شنها جورج بوش تحت غطاء غير معلن لهذه النظرية لقيت معارضة شديدة ليس من البلدان العربية والإسلامية فقط، بل من داخل المجتمعات الرأسمالية نفسها، وعلى رأسها الولايات المتحدة وذلك بعد حصادها المستمرة فصوله المأساوية الكارثي ليس على شعوب تلك البلدان فحسب، وعلى الأخص العراق وأفغانستان، وفلسطين، بل حصادها الكارثي المالي على الولايات المتحدة نفسها بسبب عسكرة الاقتصاد الأمريكي.
ولئن كانت سقطات وزلات لسان الرئيس الأمريكي جورج بوش قد فضحت جانباً من مضامين وجوهر حربه المزعومة على “الارهاب” على اثر احداث سبتمبر 2001م حيث كان من ضمن ما تلفظ به ما مؤداه استعداده لشن حرب صليبية جديدة على الإسلام، فلعل وزير العدل الأمريكي هو أكثر من عرى صراحة مؤخرا الخفايا الحقيقية العنصرية لهذه الحرب ضد العرب والإسلام والمسلمين، وقد جاءت تعريته لهذه الأهداف الخبيثة لتلك الحرب ذات مغزى أيضا في توقيتها لتزامنها مع رحيل هنتنجتون والحملة العدوانية الوحشية الإسرائيلية الأخيرة على غزة والمدعومة أمريكيا تحت شعار القضاء على “حماس” كحركة “إرهابية” أصولية إسلامية، وليس كحركة تحرر وطني تقاوم احتلالاً تدينه الشرعية الدولية كما يفترض.
اذ يقول كلارك في حوار له مع قناة “روسيا اليوم” إن الحرب الأمريكية على الإرهاب ليست سوى حرب على الإسلام والمسلمين، وهي تظهر أن الإسلام دين عظيم يجب احترامه وهو لا يقل شأنا عن المسيحية، وينبغي عدم التقليل من شأنه او الاستخفاف بمعتنقيه او الدور الذي يلعبونه على الساحة الدولية في عالم اليوم، وأدان كلارك عدم تمييز إدارة بوش، في حربها على “الإرهاب”، بين “الإرهابيين” الحقيقيين ومعتنقي الدين الإسلامي الأبرياء في أمريكا وخارجها، خاصة أن من قتلوا في أحداث سبتمبر على حد تعبيره 10% من مجموع من طاولهم الإرهاب الرسمي بعدئذ في الولايات المتحدة نفسها. ويضيف في العراق ارتكبنا أعظم الجرائم في العصر باسم هذه الحرب، فقد قتلنا مليون إنسان وتسببنا في تهجير 6 ملايين إنسان من الناس العزل الأبرياء.
 
أخبار الخليج 5 يناير 2009