المنشور

التضامن مع غزة.. المستويات والدلالات


تنطوي أشكال وأحجام ومستويات التضامن الشعبية والاحتجاجات الجماهيرية التي انطلقت في عواصم ومدن عدد من البلدان العربية على مغزى ودلالات سياسية خاصة، على درجة من الأهمية، فبقدر ما تعكس تلك الأشكال والمستويات الاحتجاجية ترمومتر حال الشعور القومي العربي والإسلامي والإنساني للقضية الفلسطينية، بقدر ما غدت أشكال التضامن مع هذه القضية المركزية للعرب تعكس مدى رحابة صدر معظم الحكومات العربية حتى بهذه الأشكال من الاحتجاجات الجماهيرية والتي كانت منذ خمسينيات القرن الماضي حتى سبعينياته عادية ومن المسلمات وأبسط الحريات العامة المسموح بها من قبل تلك الحكومات، طالما هي مخصصة لغاية محددة هي إبداء التضامن مع الشعب الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية واستنكار وشجب الاعتداءات الإسرائيلية عليه أو على شعوب البلدان العربية.
اليوم باتت معظم الأنظمة العربية، ونظراً لتداخل أجندات القضايا القطرية الملحة، سواء المتصلة بالقضايا المعيشية، أم تلك المتصلة بقضايا الحريات والحقوق الدستورية وقضايا حقوق الإنسان.. إلخ، تداخلا مع أجندة القضايا القومية، وعلى الأخص الفلسطينية، يصعب فكه أو تجاهله، وهو ما تدركه جيدا جل هذه الأنظمة فقد أصبحت هذه الأخيرة تحسب ألف حساب للسماح باحتجاجات ومسيرات قد تتداخل وتترابط قضاياها الوطنية بالقومية على نحو لا مناص منه. ومن ثم فإن غالبية هذه الأنظمة تجد لا مفر لها من فرض قيودها الأمنية على تلك المسيرات الجماهيرية، سواء العفوية منها أم المنظمة مهما تمادى العدوان الصهيوني في جرائمه ومجازره المنهجية اليومية بحق الشعب الفلسطيني الأعزل في غزة.
كما أن الانقسام والصراع الفلسطيني المتواصل بين “فتح” و”حماس” حتى في عز ارتكاب العدو المذابح الحالية المتواصلة ينعكس هذه المرة بوضوح سلبيا على روح ومعنويات الاحتجاجات الجماهيرية العفوية والحركات السياسية العربية على السواء. فكيف يمكن إدانة الصمت الرسمي العربي أو إدانة الأنظمة لممارساتها القيودية والتضييقية على تلك الاحتجاجات الشعبية وسائر أشكال الفعاليات التضامنية في الوقت الذي لم تستطع فيه نوافير الدم الفلسطيني المسفوكة وأشلاء الأطفال الممزقة توقيف ذلك الانقسام والصراع على السلطة والحرب الإعلامية التخوينية الطاحنة المتبادلة بين الجانبين؟
ومثلما الانقسام الفلسطيني يترك آثاره السلبية على حجم ومستوى وقوة الاحتجاجات الشعبية ضد المجازر الصهيونية المتواصلة بحق الشعب الفلسطيني، والتضامن مع القضية الفلسطينية وسائر فعاليات وأشكال التضامن معها، فإن الانقسامات الشعبية العربية بدورها على مستوى الجبهات الداخلية في غالبية البلدان العربية تترك أثرها وتعكس نفسها على فاعلية وقوة الاحتجاجات الشعبية، وعلى حجم ومدى اتساعها وعلى قوة سائر أشكال التضامن الأخرى. ولهذا ليس غريبا ان نجد ومنذ سنوات في تلك الأقطار العربية مسيرات تضامنية مع فلسطين خاصة بكل تيار على حدة، وبكل طائفة أو مجموعة من الأحزاب على حدة، وهذه بلا شك واحدة من المفارقات التاريخية الراهنة الساخرة المؤلمة لما بلغته الأوضاع العربية على
المستويات القطرية والقومية من تدهور ومآس تراجيدية متفاقمة ومتصلة وبخاصة اذا ما نظرنا كيف كانت القضية الفلسطينية تكاد تكون هي الأجندة الوحيدة والراية التوحيدية الوحيدة التي تلتف حولها وتيرات كل الرايات ومختلف ألوان الطيف السياسي في كل الأقطار العربية بلا استثناء على امتداد الوطن العربي من المحيط الى الخليج.
ولئن كان بروز أقوى هذه الاحتجاجات وأشكال التضامن مع غزة، قد جرى في العالم العربي ليعكس أولوية وقوة الإحساس القومي المشترك تجاه القضية الفلسطينية على غيره من الاحاسيس الأخرى فإن من اللافت هذه المرة الذي لا يخلو من دلالة أن تأتي بعض هذه الفعاليات الاحتجاجية في الأقطار العربية الأكثر تضررا بالحروب والصراعات الداخلية كما جرى في العراق والسودان، وعلى الأخص في دارفور الجريح، فضلا عن لبنان جرت أقوى الاحتجاجات العربية بالرغم من انه لم يتعاف بعد من آثار الاعتداءات والاجتياحات الصهيونية السابقة، وعلى الأخص عدوان الـ 33 يوما الذي جرى في صيف 2006 . وإذا كانت مسيرات لبنان لم تخل من رموز وطنية غير عربية وعلى الأخص من قبل الأرمن، فإن أكراد العراق الذين يرتبطون مع أشقائهم العرب العراقيين في المصير الواحد المشترك بدا إقليمهم وكأنه يعيش في كوكب آخر غير معني البتة بما يجري في العالم العربي. ومع أن الجزائر المعروفة بـ “بلد المليون الشهيد”، والتي ظلت طيلة عقود تحتضن قيادات ومؤتمرات الثورة الفلسطينية وتمدها بكل أشكال الدعم السياسي والعسكري والمالي، وعلى الرغم مما هو معروف عما مرت وتمر به من أزمة داخلية مديدة ترقى الى شكل من أشكال الحرب الأهلية التي لا تقل خطورة عن الحرب اللبنانية، وبالرغم كذلك مما هو معروف عن قوة التيار الإسلامي فيها، فإن الغضب الشعبي تجاه الجرائم الصهيونية نجحت القيود الأمنية المشددة في منع انفجاره في ظل رئيس لطالما عُرف بمساندته للثورة الفلسطينية خلال الحقبة البومدينية.
 
أخبار الخليج 4 يناير 2009