المنشور

تحية للمسعفين والمنقذين في‮ ‬غزة


إن الجهد الذي يضطلع به المنقذون والمسعفون في كارثة غزة الدموية جهد يضاهي المقاتلين الذين يواجهون الموت في أية لحظة، فهم يتعرضون لشتى المخاطر والكمائن التي ينصبها العدو الإسرائيلي لمن يواجههم مقاتلاً بالسلاح أو أعزلاً، ومع ذلك لا يتراجعون أو يترددون أو يشيحون بأجسادهم عن الأجساد التي أصيبت بمقتل أو تعرضت لإصابات بليغة أو خفيفة جراء الاعتداء، إنهم ينطلقون كالسهام في وجه الرصاص والقصف من أجل إنقاذ هذه الأجساد، ويستعينون بشتى السبل من أجل إسعافها واستعادة الحياة أو بعضها إلى أرواحهم، ولا يتوقفون عن مزاولة الإنقاذ والإسعاف مهما كان حجم الجثث أو المصابين، ولا تعرف عيونهم الغفوة أو النوم، إنهم يقظون وكأنهم كائنات ألفت عيونهم السهر مهما تعاقب عليها الإجهاد والتعب والإعياء.
إنهم يمضون إلى (الضحية) دون خوف من أن يكونوا هم في اللحظة ذاتها عرضة لأن يكونوا ضحايا، ينتشلون الأجساد ويدفعوا بها في سيارات الإسعاف ويتوجهوا بها إلى المشفى، ويعودون ثانية لانتشال أجساد أخرى في الوقت الذي توجه آخرون منهم بسيارات الإسعاف إلى المشفى الذي غص بالقتلى والمصابين وتعذر ربما إسعافهم عسى أن يكون الوقت كفيلاً بتهيئة مرافق ولو متواضعة لإنقاذ ما تبقى من رمق للحياة في أرواحهم.
لم يتوقف جهدهم عند هذا الحد، بل إنهم إزاء هذه الكارثة يدخلون في مفاوضات مع رجال الحدود في رفح ومع الجنود الإسرائيليين الذين يعترضون درب سيارات الإسعاف، وذلك من أجل تلبية نداء الواجب الوطني والإنساني، يحاولون فلعل في المحاولة ما يفسح بعض الهواء للدخول إلى رئة بعض من يغالبه الموت في الطريق.
يبكون ويغضبون ولا ترى من ذلك شيئاً بادياً على قسماتهم، كل الذي ينبغي أن يمنحوه لمن انتشلوهم ابتسامة أو أمل فلعلها تسعفهم على تحمل العلاج أو درب سيارات الإسعاف المتجهة إلى المشافي، ربما يكلون أو يرهقون ولكنهم يستميتون من أجل ألا يلحظ الآخر عليهم مثل هذا الإرهاق أو الكلل كي لا يعتقد أنهم ضجرون من مهامهم الإنقاذية والإسعافية  المناطة إليهم، يخيم الظلام ويسود دخان القصف ولكنهم مضطرون لأن يقاوموا هذا الظلام وهذا الدخان بعيونهم المدربة على السهد واليقظة حتى يبدو لمن لا يعرفهم بأنهم كائنات أسطورية خلقت ضد الموت من أجل منح الحياة للآخرين.
لم تكن أجسادهم مهيأة لحمل الجثث الثقيلة أو الخفيفة أو الممزقة أو المحترقة أو المشوهة تماماً فقط، إنما أجسادهم مهيأة لأحمال أخرى لا تقل ثقلاً عن هذه الأجساد وإن كانت وجدت من أجلها، إنهم لا يهرعون إلى موقع الكارثة دونما معدات الإسعاف أو ما يسعفهم في إزاحة ركام الأنقاض عن بعض الجثث والمصابين، هذا إلى جانب تحملهم مشاق لملمة أشلاء الجثث وفرزها بسرعة للتعرف على الضحية، أجسادهم تتجاوز معقول وفانتازيا الصورة اللهاثية البرقية التي نراها عبر الفضائيات، إنها لا تستريح ولا تهدأ وزمانها يتجاوز المرئي والمسموع في الفضائيات، زمن يمتد في الموت والحياة ولا يتوقف عندهما.
ربما يبدو الأمر عادياً للآخرين في لحظات وحالات الإنقاذ والإسعاف الطارئة والسريعة، ولكن حين يتعلق الأمر بالحروب والمجازر، فالأمر يبدو مروعاً وخرافياً، إذ إن كل نأمة في جسد المنقذين والمسعفين تتحرك وتستيقظ وتستنفر أقصى طاقتها التي يستهلكها الإنسان العادي ربما في سنوات، إننا نراهم في غير طبيعتهم، أحياناً ملطخين بدماء من يسعفونهم وكأنهم المصابين، وأحياناً نراهم يهرعون في ساحة الكارثة وكأنهم يبحثون عن من ينقذهم أو يسعفهم، حالاتهم معجونة بالدماء والكارثة والأمل في آن.
أتخيلهم سمعوا كل أنين وعويل وحشرجات واستغاثات القتلى والمصابين دون استثناء، وأحسبهم يعرفون كل ضحايا المجزرة واختزنوا آلامهم وفدحهم وآلام وفدح أهاليهم وأقربائهم أيضاً، إنهم وطن يقاتل بقلوب من حب ورحمة من أجل إنقاذ فلسطين كلها وليس ضحايا غزة فحسب، إنهم في قلب المجزرة حتى في غياب أهل المقاومة، بل لعلهم في كارثة مثل كارثة غزة هم المقاومون الحقيقيون والوحيدون للعدوان الإسرائيلي ولصواريخ قصفه، فتحية لهم من القلب هؤلاء المقاومون الأبطال في ساحات الكارثة الدموية المفجعة.
 
الوطن4 يناير 2009