­

المنشور

الرأسمالية في المرحلة المالية الكبرى

حين تريد أن توصفَ الرأسمالية باحثاً عن قوانين سببية لهذا النمو العاصف المعقد، الذي يلفُ الكرة الأرضية كلها، يتصور البعضُ أن هذا تأييدٌ للرأسمالية، متصورين انه يمكن إلغاؤها، مثلما تلغى وجبة من مطعم وتطلب أخرى.
وهذه “الإرادوية” الذاتية، التي تتصور التشكيلات الاجتماعية، وهي الأنظمة الكبيرة التي تعيشها البشرية، شيئا سياسيا، يمكن أن يتفق على إلغائه السياسيون أو زعماء النقابات.
وهذه الفكرة المهيمنة على الشرقيين دولاً وسياسيين وأحزاباً تجدها في الأعمال الفكرية للينين، ولدى أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في الصين ولدى الدينيين وغيرهم.
 
ويطرح بعضُ أعضاء اللجنة المركزية تلك آراءً من قبيل (إننا نبني تجربة اشتراكية ولكن بخصائص صينية)، وكما يحدث غموض لمصطلح الرأسمالية يحدث غموضٌ في مصطلح الاشتراكية.
يقولون ذلك في الوقت الذي تصدعت فيه ملكية الدولة الشاملة، وكلما يحدث تصدعٌ في هذه الملكية العامة تحدث تحولاتٌ في المفاهيم وتـُطرح أسماءٌ جديدة تعبرُ عن إخفاق السيطرة الكاملة للدولة، في هذا الزمن، كما تتشكل حركات سياسية مرافقة لتآكل دور الدول الشمولية، وكثيراً ما تكون المفردات الايديولوجية المطروحة مثل مفردة بعض أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، من هذا القبيل، مثلما بدأت التجربة الروسية بمصطلح (الشيوعية) و(شيوعية الحرب)، ثم صُححت بمصطلح (اقتصاد النيب أو السوق).
وحتى المصطلحات الدينية الشرقية هي من هذا القبيل، فمصطلح (ولاية الفقيه)، يعبر عن التوجه لنموذج رأسمالية شمولية، تهيمن فيه الأجهزة الحكومية على الدخول الوطنية، وطرق توجيهها. وهذا أمرٌ يترافق مع طبيعة الدستور الإيراني الذي ينحت دولة شمولية في الوقت الراهن.
هذا هو المسار الشرقي لتشكيل رأسماليات تطلع من ظروف تخلف وبيئة اجتماعية فقيرة غير قادرة على إيجاد تراكم رأسمالي كبير، فيقوم العمال والفقراء المأخذون والمهيمن عليهم من خلال هذه الايديولوجيات بالتضحية وإيجاد تراكمات للرأسماليات المتخلفة.
وجود تراكم أولي تاريخي هو القادر على وضع أسس للرأسمالية، ظهر ذلك في الغرب عبر الغزوات التجارية ونهب ذهب أمريكا وزراعة الهند، ثم باستنزاف الفلاحين والحرفيين الأوروبيين وطردهم من أراضيهم، ولهذا فإن التراكم التاريخي للرأسمالية في الشرق يحدث تحت تلك اللافتات المتضادة؛ (الشيوعية)، و(الاشتراكية بخصائص صينية)، و(دولة ولاية الفقيه)، (ودولة العلم والإيمان)، و(دولة الأسرة الواحدة) و(الجماهيرية الشعبية)، و(دولة الإسلام) الخ…
مع موروثات الشرق الاستبدادية التي تـُضفر في الاقتصاد الحديث، فإن كل اقتصاد شرقي غائص في التخلف وسيطرة الموظفين الكبار والعائلات الكبرى المتنفذة، والعسكريين الكبار، يستنبط تسميات خاصة به، ليجعل هذه الفئات الإدارية تثرى وتجمع الملايين وتحولها إلى مشروعات خاصة، ناجحة أو فاشلة، عبر تلك التسميات المتجاهلة لسببية تشكل الرأسمالية الحديثة وقوانينها. وقد قامت سياسة الغرب المسيطرة في السنوات الأخيرة على هدم القطاعات العامة المشكلة لرأسمالية “منتجة” في الشرق، وكان أكبر تجمع كوني للصناعات المنتجة هو الاتحاد السوفيتي، وقد انهار سياسيا بسبب عدم قدرته خلال عقود على تطوير الملكية العامة، وجعلها ضمن حساب القيمة الحقيقي.
في حين حافظت الصين على ذلك على أسس اقتصادية نفعية دقيقة، فلا مساعدات سياسية هائلة ولا نفقات عسكرية تفوق القدرة الحقيقية ولا تدخل في الحروب بل تطوير قوى العمل إلى اقصى طاقاتها وخلق تنافسية اقتصادية بين القطاعين العام والخاص، وهو ليس توجها للاشتراكية كما يقول أعضاءُ اللجنة المركزية السابقو الذكر، وليس هو اقتصاد مختلط لم يحسم خياره بين التشكيلتين الرأسمالية والاشتراكية، بل هو رأسمالية متنامية بقوة تهيمن عليها قوى البيروقراطية السياسية الحاكمة، وهو كذلك استنزاف لقوى العمال الجبارة بأجور زهيدة.
ويمثل ذلك الشعار إذًا تسمية إيديولوجية من لدن تلك الطبقة نفسها، لكي تحافظ على تلك الأجور المحدودة في ظل تنافسية الرأسماليات العالمية الغربية خاصة التي لا تصل إلى أجور بمثل هذا البخس.
ولهذا يجرى في تلك الرأسماليات الغربية استيراد العمال الآسيويين وغيرهم من أجل تقليل تكاليف السلع المصنوعة، كما يجرى نقل الشركات الكبرى إلى دول العالم الثالث ذات الأيدي العاملة الكثيفة الرخيصة المدربة والتقنية.
يمكن أن توصف مرحلتنا من التطور الرأسمالي التاريخي الذي ينقل الأرض في عولمة وترابطية بنيوية شديدة وعاصفة، بأنها هيمنة للرأسمال المالي، بشكل أكبر من بقية فروع رأس المال، حيث عمل الغرب على جلب الرساميل النقدية إلى منطقته، خاصة من دول الخليج حيث هنا (تكدست الأموال التي ناهزت 4،7 تريليونات دولار إضافة إلى الإيرادات التي ينتظر أن تجنيها هذه الدول من صادراتها النفطية التي ستصل إلى 8،8 تريليونات دولار بحلول سنة 2020) كما يقول الكاتب ماكس رودنياك في الإيكونوميست.
فعملت سياسة الغرب على تحويل النفط الخليجي إلى رأسمال نقدي، ولعدم تحول المنطقة إلى منطقة صناعة متقدمة، لكن الكثير من هذه المبالغ تحولت إلى بذخ ومضاربات في أمريكا.
ومن هنا كثرت البنوك والشركات المالية التي تقوم باستنزاف النقد وتحويله إلى الخارج، فجاءت الأزمة لتضرب عمليتي نقل النفط ونقل النقود.
هنا لا نجد مصطلحا سياسيا سائدا فلا الاشتراكية ولا الرأسمالية ولا شيء آخر، نظراً لغياب أي نوع من التخطيط والنظرة المستقبلية، ولطابع العفوية الشديد وغياب الشعوب عن التأثير في توزيع النقد، وجلب العمالة الأجنبية الكثيفة الفقيرة الرثة، القابلة بأي أجور.
لقد ضُربت الرأسمالية المالية في أضعف حلقاتها؛ في بؤرتها التي تكاثرت فيها الحروب النازفة للاقتصادات، وفي نفطها الغالي، وفي إسراف كبارها وطبقاتها الثرية وحدوث تباين هائل بين الثروة وظروف الأغلبية من الناس.
ولهذا فإن الأزمة المالية مرتبطة بالقطاعات والدول التي تسود فيها البورصات والبنوك ويقل فيها الإنتاج ويتم فيها التلاعب بالمواد الأولية الثمينة.

أخبار الخليج 3 يناير 2009