المنشور

نسمةٌ‮ ‬من الحزن الهادئ

مرةً قال كاتب عربي إنه تهب عليه نسمة من الحزن في نهاية كل عام. نسمة من الحزن الهادئ، لكنه ليس حزنا تعساً ولا أسود.  شدني ما قاله الرجل. أظن انه لامسَ في نُفوسنا منطقة مشتركة، حين اقترب من ذلك الحزن الذي يغمرنا إزاء وداع سنة قديمة واستقبال سنة جديدة.  شبّه ذلك الكاتب حزنه بالبحر من حيث العمق والاتساع، بهشاشة الأشياء أو عظمتها، لا فرق. وهذه الحيرة ناجمة عن تضارب أو تناقض المشاعر التي تنتابنا: هل مصدرها أننا نخسر زمناً، نخسر سنة من العمر أم انه ناجم من إننا ننفض عن كاهلنا حملاً ثقيلاً، فنحسُ ما يحسُ به المثقل بالأشياء التي انزاحت عنه، فانتابه شعورٌ بالخفة والرغبة في الطيران؟  أم أن الأمر لا يعدو كونه وهما، فلعل أجواء الاحتفالات بانقضاء سنة ومجيء سنة أخرى هي ما يخلق لدينا هذا الشعور بالبهجة الطاغية التي لا تفلح في إزاحة ذلك الشعور بالحزن الهادئ في نفوسنا؟! ليكن الأمر وهماً. بوسعنا أن نخلق من الوهم فرحاً، لأننا نريد ذلك ونشتهيه، لأننا نريد أن نجعل من العام الجديد عاماً للفرح، ونهفو إلى ذلك ونسعى صادقين وراءه، كأننا مأخوذون بالرغبة في أن ننجز في العام التالي ما لم نستطع انجازه في العام الذي انقضى أو في الأعوام التي انقضت.  
لذا يبدو الحزن الهادئ الذي عناه الكاتب شيئاً من تطهر النفس من أعبائها ومتاعبها، فالفاصل الزمني اليسير بين عامين، وهو فاصل من الزمن لا يكاد يُدرك أو يُحس لفرط قصره، يكثف في نفوسنا المشاعر الحائرة المشتبكة بين الحزن والفرح، بين السعادة والأسى، بين القنوط والأمل.  لكننا حتى في أقسى لحظات القنوط التي يمكن أن تنتابنا لهذا السبب أو ذاك، نكون قد عقدنا العزم، في أعماق ذواتنا، ألا نرضخ لهذا القنوط، إننا نضمر النية حتى لو لم نُعلنها على أن نبقي أشرعة الأمل منشورةً، وشبابيك الرجاء مفتوحة على أفقٍ أخضر ندي . من النادر أن تُسعفنا الحياة بلحظات للتأمل والتبصر في أنفسنا، في ما نريد وما لا نريد، في الذي أنجز من طموحاتنا وفي الذي لم ينجز، بل ربما تعين علينا أحيانا أن نصدم أنفسنا بالسؤال القاسي والصعب: من نحنُ وماذا نريد؟!   ويبدو أن لحظة توديع عام واستقبال عام جديد هي من تلك اللحظات النادرة التي بوسعنا أن نفاجئ أنفسنا بأسئلة مثل هذه، أن نشعر بالحزن الهادئ الذي عناه الكاتب، فذلك أمر عظيم، انه دليل يقظة الروح وعدم موات الأحاسيس في نفوسنا.  ربما لأن هذا الحزن الهادئ هو بحد ذاته إمارة من أمارات الفرح والبهجة الخفية أو الرغبة فيهما، إمارة من أمارات إننا نحب الحياة ما استطعنا إليها سبيلا، وان جذوة الكفاح في دواخلنا ما زالت حيةً، قويةً، تمنحنا الحماية من اليأس ومن الاستسلام لواقعٍ لا نرضاه، ولا يُحقق لنا ما هيأته فطرتنا الأولى لأن نكونهُ، ولأن نأخذه.

الأيام 3 يناير 2009