المنشور

الـ “كلاشنيكوف” والثورة الفلسطينية


قبل انهيار الاتحاد السوفييتي، ربما القلة داخل هذه الدولة العظمى الجبارة، بل في العالم بأسره هم الذين يعرفون إن اسم واحد من أشهر وأهم الأسلحة التي اخترعت في القرن العشرين، ألا هو الـ “كلاشنيكوف” يرتبط باسم مخترعه الروسي فيكتور كلاشنيكوف. أما حياة هذا الإنسان والظروف التاريخية والاجتماعية والسياسية التي اخترع خلالها هذا السلاح، فلا يكاد أحد في بلده، دع عنك العالم، يلم بها شيئا يذكر، اللهم النزر اليسير من قبل النخبة السياسية والمثقفة في وطنه، وربما على هامش ورود اسمه عابرا في المناسبات العامة التي يظهر فيها تكريمه الرمزي رسميا. 
 
فجأة وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي اكتشفت روسيا واكتشف العالم معها قصة اختراع هذا السلاح، وقصة الرجل الذي ارتبط اسمه به، فأميط اللثام عن واحدة من أشهر البنادق في العالم لطالما ارتبط اسمها أيضا بحركات التحرر الوطني المسلحة او الكفاح المسلح في أيدي المناضلين والمقاتلين من أجل تحرير واستقلال أوطانهم من ربقة الاستعمار والاحتلالات الأجنبية، أو من اجل الحرية والتغيير والتقدم الاجتماعي في آسيا وأفريقيا وبلدان أمريكا اللاتينية.
وكانت فلسطين من أشهر (بلدان) حركات التحرر التي ارتبط الرشاش “كلاشنيكوف” كسلاح في أيدي مقاتليها لمنازلة أعدائهم، وعلى الأخص في أيدي مقاتلي المقاومة الفلسطينية خارج الأرض المحتلة في الأردن ثم في لبنان، وذلك قبل انكفاء هذه المرحلة الذهبية من “الكفاح المسلح” بعد طرد فصائل المقاومة من الأردن عام 1970 ثم من لبنان عام 1982، وكانت أعظم وأشهر العمليات الفدائية البطولية ضد قوات الاحتلال الصهيونية قد ارتبطت بهذا السلاح تحديدا، حتى تم الاحتفاء به وذاع صيته فنيا في إحدى الأغاني الوطنية الفلسطينية الثورية التي خلدت اسمه “كلاشنيكوف” في مطلع الأغنية لترددها حناجر الفرق الغنائية الثورية الفلسطينية دونما ان يعلموا شيئا في الغالب عن قصة اختراع هذا السلاح وقصة مخترعه الروسي ومن دون ان يعلم عن ذلك أيضا كل أبناء شعبهم والشعوب العربية التي كانت تردد معهم تلك الأغنية وتعشقها مبثوثة بين الإذاعات الفلسطينية في المنافي العربية خلال ذلك الزمن الجميل من العزة والكرامة الفلسطينية والعربية قبل أفول المقاومة من الخارج.
فمن هو ميخائيل كلاشنيكوف؟ وما هي قصة اختراعه هذا السلاح الأسطوري؟
ميخائيل كلاشنيكوف ولد في وسط أسرة فلاحية كبيرة وفقيرة لأب وأم من الفلاحين بلغ عدد أبنائهما 18 ابنا، وكان ترتيبه الخامس عشر بينهم، لكن لم يظل منهم على قيد الحياة سواه بسبب ظروف الفقر وضنك المعيشة التي كان يرزح في ظلها السواد الأعظم من الروس حتى عشية إسقاط الإمبراطورية القيصرية وإقامة النظام الاشتراكي السوفييتي الجديد على أنقاضها في عام  1917 .
بدأ حياته العسكرية في الجيش الأحمر السوفييتي رقيبا عام 1939، ووحده القدر الذي أنقذه بأعجوبة من الهلاك في الحرب العالمية الثانية، بالرغم من إصاباته البليغة التي وصلت إلى أكثر من 20 رصاصة في ظهره وكتفه الأيمن، فنقل إلى المستشفى ليصنع من أعجوبة قصة نجاته وبقائه على قيد الحياة أسطورة أخرى لقصة اختراعه بندقية الـ “كلاشنيكوف”.
فقد حوّل غرفته بالمستشفى التي كان يقيم معه فيها 7 جنود مصابين آخرين إلى ورشة عمل من التصميمات الاختراعية للوصول إلى أفضل سلاح رشاش آلي جديد يقهر العدو، وقد استوحاه من بعض البنادق الآلية السريعة المتطورة التي كانت في أيدي الجنود الألمان الغزاة، وهو ما استفزه ودفعه للتفكير في هذا الاختراع لتعزيز مقدرة جيشه وشعبه على الصمود والمقاومة ضد الغزاة وتطهير أراضي وطنه منهم.
ونجح في هذا الاختراع الجبار، وقد اعترفت قيادة الجيش السوفييتي عام 1947 ببراءة اختراعه لسبعة نماذج من التصميمات التي توصل إليها، وادخل سلاحه رسميا في الجيش كأول سلاح هجومي رشاش.
لكن بدلا من ان يكون هذا السلاح الفعال في أيدي أبناء جيش بلاده وشعبه للدفاع عن ترابه، فقد شاءت المقادير التاريخية السعيدة ان تقطف ثمار اختراعه حركات التحرر الوطني المسلحة في بلدان العالم الثالث، ومن ضمنها على وجه الخصوص الثورة الفلسطينية خلال سني صعودها بين أواخر سبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن الماضي. ذلك أن بلاده كما نعلم تحررت من الغزو الألماني وأصبحت قوة عظمى جبارة بعد خروجها من تلك الحرب منتصرة.
وقد حصل كلاشنيكوف على الدكتوراه في العلوم الهندسية بعد أن اخترع أكثر من 120 طرازا من الأسلحة الآلية، توجد منها أكثر من 150 مليون قطعة اليوم في العالم. ويقدر العلماء والقادة العسكريون انه بالرغم من مرور أكثر من ستة عقود على اختراع بندقيته، فإنه يصعب إيجاد بديل عنها حتى عام 2025 على الأقل، وذلك باعتبارها السلاح الدفاعي الأول لمعظم جيوش العالم، وبالنظر لمواصفاتها من حيث الأمان وسهولة الاستخدام وطول عمرها الافتراضي.
المخترع السوفييتي لهذا السلاح العسكري المدهش والبسيط مثلما طواه النسيان لعقود طويلة من الحقبة السوفييتية ها هو يكاد يمضي بقية حياته نسيا منسيا، وقد بلغ من العمر عتيا (نحو 90 عاما)، لا يظهر إلا في بعض المناسبات ليندب خلالها لوسائل الإعلام حظه العاثر طوال أكثر من 6 عقود منذ ذلك الاختراع، إذ لا يملك اليوم سوى شقة صغيرة يعيش فيها وحده في مدينة “ايشفيسك” وسيارة قديمة لتنقلاته هي ملك الدولة ومرتب شهري لا يزيد على ثلاثمائة دولار (اي نحو مائة دينار ونيف فقط) في بلد من أغلى بلدان العالم. فلا غرابة إذا ما ألم به قدر من الاكتئاب النفسي ليس لتجاهل الدولة والمجتمع والعالم لمكانته المفترضة كأحد أشهر مخترعي الأسلحة العصرية دفاعا عن الشعوب وأوطانها فحسب، بل لما آل إليه سلاحه من وقوعه في أيدي كثرة من عصابات الإرهاب العالمية واستخدامه كوسيلة لإبادة الأبرياء والمناضلين والمثقفين الذين اخترع سلاحه من اجل حمايتهم، وحماية أوطانهم، هذا في الوقت الذي يجد فيه إن نظراءه من المخترعين الغربيين والأمريكيين هم الآن من كبار المليونيرية، بل بعضهم من المليارديرية، كمخترع البندقية الامريكية (ام – 16) الأمريكية.
ورغم هذا الاكتئاب الذي يمر به “كلاشنيكوف” بسبب ذلك التجاهل والجحود والحياة المتواضعة التي يعيشها الآن في أرذل عمره فانه مازال شديد الاعتزاز والتمسك بالمثل والمبادئ الوطنية والإنسانية التي اخترع من اجلها بندقيته العتيدة الخالدة والتي ارتبط باسمها وباسمه أشهر سلاح في أيدي ثوار وأحرار العالم على مدى نصف قرن.
واذ يبدي اعتزازه بأن العرب عرفوا سلاحه واستخدموه دفاعا عن قضاياهم التحررية والوطنية يقول: “أريد ان أوجه أجمل تحياتي النضالية إلى شعبي فلسطين ولبنان، لقد صنعت هذا السلاح أساسا لحماية وطني الذي تحرر، لكن سعادتي الآن أن أرى الشعوب التي تستخدمه للدفاع عن أوطانها كما في فلسطين ولبنان”.
ولعل المآل التراجيدي الذي آل اليه مخترع هذه البندقية من التجاهل يتقاسمه معه فيه اليوم حاملو ليس هذا السلاح فحسب، بل كل أشكال الأسلحة النضالية الأخرى التي هجرها ديناصورات قيادة الثورة الفلسطينية ممن هم في السلطة الآن، فيما لسان حال الجنود الفلسطينيين الأبطال المجهولين المتبقين على قيد الحياة يقول وهم يشاهدون بألم العدوان الغاشم على شعبهم في غزة: “والله زمان يا سلاحي.. اشتقت لك في كفاحي”.


أخبار الخليج 3 يناير 2009