المنشور

الفتى الكسندروس‮ ‬يموت بطلاً

لم‮ ‬يكن الفتى الكسندروس‮ ‬يدرك‮  ‬انه سيخلد للموت،‮ ‬مثلما لم‮ ‬يكن‮ ‬يعرف انه بعد موته سيصبح بطلا إغريقيا لزمنه،‮ ‬وانه سيشعل بين الطلبة والشبيبة في‮ ‬كل الجزر اليونانية‮ ‬غضبا عارما وتساؤلا عميقا عن كل ما‮ ‬يدور من فساد وسوء إدارة في‮ ‬سلك الأمن والشرطة‮. ‬كل تلك التساؤلات بدأت تتفجر بشكل واضح وان لم تكن ناتجة عن تلك الحالة لمقتل الفتى،‮ ‬بقدر ما تداخلت القضايا المجتمعية والاقتصادية والتعليمية معا،‮ ‬فحملت في‮ ‬طياتها ذلك الغضب المكتوم نحو شوارع أثينا وضواحيها والمدن الصغيرة حتى مدينة سالونيكي‮ ‬في‮ ‬الشمال اكبر ثاني‮ ‬المدن اليونانية،‮ ‬فالتقت بذلك الحركة الشبابية والطلابية والنقابية والأحزاب السياسية معا في‮ ‬تطاحن حقيقي‮ ‬من حكومة اليمين بقيادة كرامنليس،‮ ‬التي‮ ‬حاولت ولا تزال تحاول امتصاص الغضب تحت كل الحجج والوسائل والوعود،‮ ‬فهل بالفعل موت الفتى كان سببا وراء تلك الأزمات المستفحلة أم انه الشرارة التي‮ ‬أشعلت الغابة المعفنة بالمستنقعات التي‮ ‬مر وقت طويل لها دون أن تنجح في‮ ‬تجفيفها كل الحكومات السابقة؟‮  ‬بما فيها حكومة الحزب الاشتراكي‮ ‬والأحزاب اليسارية الذين وجدوا في‮ ‬علة الوضع فرصة ذهبية لإسقاط الحكومة الحالية،‮ ‬معتبرين حالة تزايد وتضخم الوضع حتى درجة التردي‮ ‬فرصة لهم،‮ ‬والشعور بأن اليونان بدأت تعيش أوضاعاً‮ ‬معيشية متدهورة لا تليق بدولة عضو في‮ ‬الاتحاد الأوروبي‮. ‬لقد أثارت موجة الغضب والتخريب في‮ ‬الممتلكات المهولة حالة فزع لدى شرائح واسعة ومؤسسات مالية وتجارية،‮ ‬فقد اختلط الحابل بالنابل،‮ ‬وعمت كل تلك العمليات التخريبية الشوارع الرئيسة والفرعية لدرجة دفعت رئيس الوزراء كرامنليس بالإعلان عن إن الحكومة ستدفع تعويضا ماليا لكل من أصابهم التخريب،‮ ‬لعله‮ ‬يمتص‮ ‬غضبهم ويحاول الحفاظ على ناخبيه من تلك الأوساط والشرائح،‮ ‬بينما وجد الحزب الاشتراكي‮ ‬المعارض بقيادة باباندريوس نفسه‮ ‬يخرج للملأ معلنا إن الحكومة فشلت في‮ ‬مواجهة الأزمة وعليها التنحي‮ ‬وأن وتدعو لانتخابات مبكرة‮. ‬هانحن نتابع استمرار تصاعد الأزمة ومواصلة الشارع اليوناني‮ ‬احتجاجه بشكل عنيف وسلمي‮ ‬معا،‮ ‬فقد تركت النقابات للطلبة والشبيبة نهجها في‮ ‬الهيجان،‮ ‬ومواصلة السيطرة على ضواحي‮ ‬وبلديات المناطق وكأنها دخلت حالة حرب المتاريس والإدارة الذاتية للمناطق،‮ ‬بهدف إغلاق تلك المناطق التي‮ ‬شكلت ترسا من المحتجين،‮ ‬فيما راحت النقابات تسيّر مواكب هادئة لمشروعها وأزمتها الأسبق والأعمق من الغضب الطلابي‮ ‬والتعليمي‮ ‬الذي‮ ‬ازداد لهيبه مع موت الفتى الكسندروس وسقوط الجرحى واعتقال العديد منهم‮. ‬وفي‮ ‬الوقت الذي‮ ‬يحتفل العالم بذكرى مرور الستين عاما على تدشين مبادئ إعلان حقوق الإنسان،‮ ‬يجد اليونانيون أنفسهم اليوم في‮ ‬مواجهة رصاص الشرطة ومسيلات الدموع،‮ ‬وتجد الطرقات السياحية نفسها في‮ ‬تلك المناسبة تشتعل في‮ ‬وقت اعتادت فيه المدن والضواحي‮ ‬ارتداء حلة عيد الميلاد وأعياد رأس السنة،‮ ‬بل وتزداد في‮ ‬تلك الفترة من العام قوافل السياح القادمين من عواصم أوروبا الباردة إلى أثينا الدافئة،‮ ‬غير أن هذا العام سيكون أكثر كآبة وحزنا واضطرابا،‮ ‬إذ وضع اليونانيون خلفهم شعورهم بالفرح وعاداتهم الاحتفالية خلف ظهورهم وباتوا مستعدين للمواصلة في‮ ‬تحدي‮ ‬الحكومة والضغط عليها بالتنازل والاستعداد عن تحقيق كل المطالب المرفوعة،‮ ‬خاصة مطالب الحركة النقابية التي‮ ‬بدأت تشعر بمدى تردي‮ ‬وضعها الاقتصادي‮ ‬في‮ ‬ظل الأزمة المالية العالمية من جهة،‮ ‬ومن جهة أخرى نمو وثراء فاحش لقلة قليلة من المجتمع،‮ ‬وبذلك لم‮ ‬يعد الوضع محتملا بأكثر مما‮ ‬ينبغي،‮ ‬فقد اخرج العفريت المجتمعي‮ ‬رأسه من عنق الزجاجة وكسر كل ما‮ ‬يمكن كسره من صمت واستنفار وتشنج عاشه لسنوات عدة‮. ‬كان المجتمع بحاجة لأضحية وقربان الحرب كفداء‮ ‬يشعل الغضب‮. ‬ويبدو أن الأزمة اليونانية لن تكون داخلية،‮ ‬بقدر ما سيجد البرلمان الأوروبي‮ ‬نفسه كالعادة منقسما وبحدة هذه المرة،‮ ‬إذ سيصطف المحافظون وأحزاب اليمين مع أصدقائهم في‮ ‬اليونان بينما سيختار أحزاب اليسار والاشتراكيون مقاعدهم الاحتجاجية،‮ ‬وسيدعمون أصدقاءهم دون هوادة أو تراجع،‮ ‬فقد وجد البرلمان الأوروبي‮ ‬نفسه في‮ ‬وضع لا‮ ‬يمكنه الوقوف في‮ ‬منتصف الطريق أو التنازل عن شركاء المبادئ مهما كانت درجة الأخطاء والخطيئة،‮ ‬فكل طرف سيرفع عقيرته بالخطب والحجج كما‮ ‬يفعل في‮ ‬العادة،‮ ‬ولكنه في‮ ‬نهاية المطاف سيجد أمامه وضعا لا بد من معالجته وإلا بلغت حرائق أثينا البيت الأوروبي،‮ ‬إذ تشتكي‮ ‬غالبية دول الاتحاد الحالة التعليمية والنقابية والمعيشية المشكلة ذاتها وان كانت بدرجات مختلفة من بلد إلى آخر‮. ‬أخيرا تحول الفتى الكسندروس بطلا محاطا بإكليل من الغار،‮ ‬وكأنه‮ ‬يذكرنا بكل أبطال الإغريق القدماء العائدين بجثامينهم من معاركهم العظيمة،‮ ‬وهم محاطون بتأبين كبير‮ ‬يليق ببطولاتهم،‮ ‬فامتزجت القيم الميثولوجية القديمة والقيم الدينية الأرثوذكسية التي‮ ‬تبالغ‮ ‬في‮ ‬طقوس الموتى وتوديعهم حتى‮ ‬غرقت الشوارع بالزهور والشموع على قبر الفتى،‮ ‬الذي‮ ‬لم‮ ‬يكن‮ ‬يدور في‮ ‬خلده أبدا انه سيشعل الوطن بذلك الحجم من المواجهة ويصبح بطلا في‮ ‬تاريخها المعاصر‮.‬

صحيفة الايام
23 ديسمبر 2008