المنشور

الاحتفاء بالحذاء وصاحبه‮ ‬يعبر عن أزمة ولا‮ ‬يعبر عن بعث جديد لأمة… تعساً‮ ‬لبعـث‮ ‬يكون رمزه حذاء…

‮»‬وعدنا بخفي‮ ‬حنين‮« ‬مثل‮ ‬يُضرب للتعبير عن خيبة الأمل،‮ ‬أو لمن بذل جهداً‮ ‬وكان العائد زهيداً،‮ ‬ولكن‮ ‬يبدو أن هذا المثل سيتغير ليصبح‮ »‬وعدنا بخفي‮ ‬منتظر‮« ‬إذ‮ ‬يبدو أن حذاء منتظر الزيدي‮ ‬سيدخل التاريخ العربي‮ ‬المعاصر من أوسع أبوابه،‮ ‬على أنه كان مرحلة تفصل ما قبلها عما بعدها،‮ ‬فقد أسس لنوع جديد من أنواع المقاومة،‮ ‬وشكل جديد من أشكال الرفض‮. ‬وحذاء الزيدي،‮ ‬الذي‮ ‬نشر أن ثريا عربيا عرض مبلغا كبيرا بالملايين لشرائه،‮ ‬ملايين كانت ستفرج كربة مئات المحتاجين في‮ ‬هذا العالم،‮ ‬سيصبح أحد مفردات الخطاب‮ »‬النضالي‮« ‬العربي‮ ‬المعاصر،‮ ‬الحذاء الرمز الذي‮ ‬استطاع أن‮ ‬يعبر عن الوقوف في‮ ‬وجه الاحتلال والإمبريالية،‮ ‬واستطاع أن‮ ‬يقول لا لبوش وطغمته الاستعمارية‮. ‬أما منتظر الزيدي‮ ‬فسيصبح علماً‮ ‬من أعلام النضال العربي‮ ‬المعاصر،‮ ‬وهو الذي‮ ‬عبر في‮ ‬مقابلة تلفزيونية سابقة مع تلفزيون المستقبل،‮ ‬عن شكره لجورج بوش الصغير لإزاحة كابوس صدام حسين عن العراقيين‮. ‬
تعجبت كثيراً‮ ‬حقيقة لرد الفعل العربي‮ ‬الجماهيري‮ ‬لما فعله الزيدي،‮ ‬وكل هذا الهيجان الذي‮ ‬أثاره حذاء قُذف في‮ ‬وجه رئيس،‮ ‬وليس أي‮ ‬رئيس،‮ ‬بل رئيس الولايات المتحدة الأمريكية،‮ ‬أقوى قوة على وجه الأرض اليوم‮. ‬عبر الزيدي‮ ‬عن رأيه ورفضه بحذائه،‮ ‬وهذا أمر‮ ‬يجري‮ ‬في‮ ‬أي‮ ‬دولة ديموقراطية من دون أن‮ ‬يثير لغطاً‮ ‬أو هيجاناً،‮ ‬فالأحذية كثيرة والبيض الفاسد أكثر،‮ ‬وذاك السرور والشعور بالرضى وعودة الكرامة الذي‮ ‬حققه الحذاء‮. ‬تعجبت حقيقة من هذا الهيجان وذاك الفخر الشعبي‮ ‬الذي‮ ‬أثاره الحذاء،‮ ‬بل ان بعض النخب،‮ ‬التي‮ ‬يُفترض فيها أن تكون أكثر وعياً،‮ ‬كانت من المحتفلين بالحذاء ورمزيته،‮ ‬كنمط من أنماط المقاومة،‮ ‬وشكل من أشكال الرفض‮. ‬اعتصام في‮ ‬بيروت،‮ ‬ومسيرات في‮ ‬بغداد،‮ ‬من أجل الحذاء وصاحب الحذاء،‮ ‬وخطب عنترية حول فلسفة الحذاء،‮ ‬وحوارات تلفزيونية حول مستقبل العراق بعد الحذاء،‮ ‬والحديث عن معجزات في‮ ‬كيف أن الحذاء الذي‮ ‬لم‮ ‬يصب رئيس أمريكا،‮ ‬أصاب علم أمريكا،‮ ‬ولم‮ ‬يتجه إلى علم العراق،‮ ‬وأمور أخرى عديدة،‮ ‬ولا أدري،‮ ‬فربما‮ ‬يأتي‮ ‬يوم‮ ‬يؤرخ به بحادثة الحذاء،‮ ‬فيُقال سنة كذا للحذاء،‮ ‬وعام كذا للحذاء،‮ ‬فكل شيء وارد في‮ ‬عالم تُضفي‮ ‬فيه الرمزية على ما لا‮ ‬يستحق الترميز‮. ‬
حادثة الحذاء برهنت،‮ ‬لي‮ ‬على الأقل،‮ ‬أن عالم العرب لم‮ ‬يتغير،‮ ‬ولا‮ ‬يُريد أن‮ ‬يتغير،‮ ‬وهنا تكمن مشكلة مشكلاته‮. ‬فلو كانت حادثة الحذاء هذه جرت أيام حكم‮ «‬الرفيق القائد‮»‬،‮ ‬وكان الحذاء قد قُذف في‮ ‬وجه مسؤول حزبي‮ ‬أو حكومي،‮ ‬ولا أقول صدام حسين نفسه،‮ ‬فذاك انتحار سريع بإطلاق رصاصة على الرأس مباشرة،‮ ‬أو تذويباً‮ ‬في‮ ‬أحواض الأسيد،‮ ‬وذلك بعد نفخ الأحشاء بالمنفاخ بطبيعة الحال،‮ ‬لوجدنا فيها شيئاً‮ ‬من الشجاعة والدفاع عما بقي‮ ‬من كرامة،‮ ‬إذ ان ذلك‮ ‬يُشكل أضعف الإيمان في‮ ‬التعبير عن الرفض‮. ‬بل لو أن الحذاء قُذف في‮ ‬وجه‮ »‬زعيم‮« ‬عربي‮ ‬آخر،‮ ‬من زعماء القهر والاستعباد،‮ ‬وما أكثرهم امتداداً‮ ‬من الماء إلى الماء،‮ ‬لكان للقضية وجه آخر‮. ‬أما أن‮ ‬يحدث ذلك في‮ ‬وقت‮ ‬يقتل فيه العراقيون بعضهم بعضاً،‮ ‬ويموت آلاف الجنود من أمريكا،‮ ‬فلا أظن أن قذف حذاء في‮ ‬وجه أمريكي‮ ‬آخر،‮ ‬حتى لو كان الرئيس الأمريكي‮ ‬نفسه،‮ ‬مسألة تتطلب شجاعة،‮ ‬أو تحقق هدفاً،‮ ‬والأسلحة في‮ ‬كل‮ ‬يد‮. ‬أنا لست محبذاً‮ ‬للعنف أو لسفك الدماء،‮ ‬أو لأسلوب الاغتيالات حلاً،‮ ‬ولكن لو أن قاذف الحذاء استبدله ببعض الرصاصات،‮ ‬المتوفرة بالعراق كما الأرز العراقي‮ ‬أيام زمان،‮ ‬لقلنا قولاً‮ ‬آخر،‮ ‬بغض النظر عن تأييد أو رفض مثل هذا الأسلوب،‮ ‬ولكن أن‮ ‬يتمخض الجبل فيلد فأراً،‮ ‬فإن تلك مسألة أخرى‮. ‬أنا واثق من أن صاحب الحذاء كان‮ ‬يعلم أنه بفعلته هذه لن‮ ‬يحصل له أي‮ ‬شيء،‮ ‬وإن حصل شيء،‮ ‬فأمر‮ ‬يمكن احتماله في‮ ‬مقابل الشهرة والرمزية التي‮ ‬سيحظى بهما،‮ ‬في‮ ‬عالم‮ ‬يبحث عن بطل،‮ ‬أي‮ ‬بطل،‮ ‬حتى لو كان بطلاً‮ ‬من ورق أو كان مصنوعاً‮ ‬من جلد كما الحذاء‮. ‬
من خلال حكاية الحذاء وذاك السرور الذي‮ ‬قوبلت به في‮ ‬عالم العرب،‮ ‬يمكن قراءة الكثير عن أوضاع عالم فقد بوصلة الاتجاه،‮ ‬وسفينة فقدت دفتها،‮ ‬وليس ضمن تلك القراءة أن كراهية أمريكا في‮ ‬المنطقة قد وصلت مداها،‮ ‬لدرجة أن قذف رئيسها بحذاء أثلج كثيرا من الصدور،‮ ‬وأفرح كثيرا من القلوب،‮ ‬فكراهية أمريكا بوش الصغير وجماعة المسيحيين الجدد،‮ ‬مسألة مفروغ‮ ‬منها،‮ ‬بل ان هذه الكراهية أصبحت على مستوى العالم كله،‮ ‬فلم‮ ‬يدع بوش الصغير والمسيحيون الجدد مجالاً‮ ‬لتكريه العالم بهم إلا وسلكوه،‮ ‬بدءاً‮ ‬من تلك الغطرسة التي‮ ‬لا ترى العالم إلا من خلال أمريكا،‮ ‬أو لا ترى في‮ ‬العالم إلا أمريكا،‮ ‬وانتهاء بذاك الغرور الذي‮ ‬يعبر عنه ذلك المثل المصري‮ ‬القائل‮: «‬يا أرض اتهدي‮ ‬ما حدش أدي‮»‬،‮ ‬وما بينهما من سلوكيات جعلت حتى حلفاء أمريكا‮ ‬يشعرون بالمقت والتقزز من كونهم حلفاء لأقوى قوة ظهرت في‮ ‬التاريخ،‮ ‬ولكن على رأسها جماعة تزدري‮ ‬كل أحد،‮ ‬بعقل ضيق الأفق،‮ ‬بحجم جمجمة لا‮ ‬يتوافق مع حجم الجسد،‮ ‬وذلك مثل ديناصور ضخم الجسد،‮ ‬ولكن جمجمته صغيرة‮. ‬ثماني‮ ‬سنوات من حكم جورج الصغير وجماعته،‮ ‬حولت أمريكا من‮ «‬الحلم الكبير‮» ‬إلى‮ «‬الكابوس العظيم‮». ‬حولت أمريكا من راعية الحرية،‮ ‬إلى قامعة الحرية،‮ ‬ومن الإيمان بمبادئ الإنسان،‮ ‬إلى التلاعب بمبادئ الإنسان،‮ ‬ومن رومانسية ويلسون،‮ ‬وحكمة روزفلت،‮ ‬وإنسانية لينكولن،‮ ‬وشجاعة آيزنهاور وكينيدي،‮ ‬إلى سذاجة بوش الصغير وحماقاته التي‮ ‬حولت إرثاً‮ ‬عظيماً،‮ ‬إلى كومة من الأكاذيب والنفاق‮. ‬
وعودة إلى حكاية الحذاء،‮ ‬أقول إن حذاء الزيدي،‮ ‬وليس خفي‮ ‬حنين،‮ ‬عبر عن أعظم أزمة تعيشها أمة العرب،‮ ‬إن كان هنالك أمة عرب،‮ ‬ألا وهي‮ ‬أنها أمة خاوية الوفاض،‮ ‬لم‮ ‬يعد لديها إلا التعلق بقشة كي‮ ‬تنجو من الغرق،‮ ‬أو تعتقد أنها تنجو من مستقبل لا‮ ‬يحمل إلا الأسوأ،‮ ‬فكلما ظننا أن الأسوأ قد مضى،‮ ‬فإذا هو بالمرصاد‮. ‬كرامة ممرغة بالتراب،‮ ‬وعزة نفس لا نجدها إلا بومضات لا تكاد تُذكر من ماض تليد ليس له أن‮ ‬يعود،‮ ‬مهما افترضنا‮ ‬غير ذلك،‮ ‬وفخر نبحث عنه كما‮ ‬يبحث الخيميائيون عن حجر الفلاسفة،‮ ‬ولكن كلها أوهام تجر أوهاما،‮ ‬وواقع‮ ‬يجثم على الصدر‮: ‬قلة حيلة،‮ ‬مستقبل مجهول،‮ ‬شعور بالهامشية رغم الادعاء،‮ ‬اغتراب نفسي‮ ‬واجتماعي،‮ ‬ثقافة لا علاقة لها بالعصر رغم استهلاك منتجات العصر،‮ ‬كره وإعجاب مكتوم بعدو لا‮ ‬يشكل واحدا بالمائة من عالم عربي‮ ‬ممتد الأطراف،‮ ‬ولكنه مهيمن ومساهم في‮ ‬حضارة لا نعترف بها،‮ ‬ولكننا من رضاعها،‮ ‬والمستفيدين من لبنها‮. ‬الاحتفاء بالحذاء وصاحبه‮ ‬يعبر عن أزمة ولا‮ ‬يعبر عن بعث جديد لأمة كانت ثم صارت،‮ ‬وتعساً‮ ‬لبعث‮ ‬يكون رمزه حذاء‮. ‬احتفى العرب بالحذاء وحكاية الحذاء،‮ ‬لأنهم‮ ‬يبحثون عن أي‮ ‬رمز‮ ‬يُعيد إليهم الثقة بالنفس،‮ ‬وتلك الكرامة والعزة والشعور بالإنسانية،‮ ‬تلك التي‮ ‬قتلها القريب قبل الغريب،‮ ‬حين قتل الإنسان باسم الإنسان،‮ ‬وحين قهر الشعب باسم الشعب‮. ‬كرامة العرب مُرغت في‮ ‬التراب بواسطة العرب،‮ ‬وكل ما فعله الأجنبي‮ ‬هو أنه استغل ما هو موجود،‮ ‬ففي‮ ‬النهاية ما لجرح بميت إيلام‮. ‬حذاء الزيدي‮ ‬حادثة عادية في‮ ‬كل أمم الأرض،‮ ‬ولكنها أصبحت بالنسبة لعرب اليوم تعبيرا عن كرامة مفقودة،‮ ‬ومقدمة لصلاح ثقافة جديدة،‮ ‬أو مهدي‮ ‬آخر الزمان،‮ ‬الذي‮ ‬يعيد الكرامة والعزة والعدل لقوم فقدوا أنفسهم مذ كان تاريخهم المكتوب،‮ ‬ومن كان في‮ ‬مثل هذا الوضع،‮ ‬فكل ما‮ ‬يحدث إشارة لشيء ما‮.. ‬ما هو هذا الشيء؟ من‮ ‬يعلم‮.. ‬فالأسطورة كفيلة بحل اللغز،‮ ‬ولا‮ ‬يحل الألغاز في‮ ‬منطقتنا إلا الأساطير‮. ‬
في‮ ‬نكتة حديثة حول الحذاء وحادثة الحذاء،‮ ‬يُقال إن القاعدة أعلنت استيراد مجموعة من الجزم العراقية‮. ‬وأيضا،‮ ‬وهذه ليست نكتة،‮ ‬جاء خبر بأن كاتب أغاني‮ ‬المطرب الشعبي‮ ‬شعبان عبد الرحيم‮ (‬المُنظّر السياسي‮ ‬والاستراتيجي‮ ‬لأمة العرب اليوم‮)‬،‮ ‬الشاعر إسلام خليل،‮ ‬كتب أغنية لمنظّر أمة العرب بعد حكاية الحذاء،‮ ‬أسماها‮ «‬ما لكش لزمة‮»‬،‮ ‬وتقول كلمات هذه الأغنية‮: ‬
خلاص ما لكش لزمة‮.. ‬
يا بوش‮ ‬يا ابن الذينا‮ ‬
تستاهل ألف جزمة‮.. ‬
على اللي‮ ‬انت عملته فينا‮ ‬
بجزمتين في‮ ‬وشك‮ .. ‬
هتسيب أمريكا على نارك‮ ‬
ويا عيني‮ ‬مش حتلحق‮.. ‬
يا بوش تاخذ بتارك‮ ‬
وهييييي‮.. ‬
يا أمة ضحكت من جهلها الأمم‮.. ‬وعجبي‮..
 
صحيفة الايام
22 ديسمبر 2008