المنشور

التلوث البحري.. ومصير التقارير الموضوعية؟

بعد فترة وجيزة من صدور تقرير ديوان الرقابة المالية، وما تضمنه من معلومات صريحة تتسم بالشفافية حول مخالفات خطيرة ترقى إلى اشكال ومظاهر من الفساد في عدد من الوزارات والمؤسسات العامة الاقتصادية، وهو التقرير الذي حظي بارتياح عارم واسع النطاق في الاوساط الصحفية والاعلامية والقوى السياسية بالنظر لشفافيته.. ها هو تقرير رسمي آخر يصدر مؤخرا لا يقل شفافية فيما تضمنه من معلومات وحقائق موضوعية.. انه التقرير الصادر عن الهيئة العامة لحماية الثروة البحرية والبيئة حول ما افضت إليه عمليات الردم والدفان على مدى ثلاثة عقود ونيف من نتائج كارثية على البيئة والثروة البحرية الغذائية ولاسيما ان هذه العمليات ظلت متواصلة طوال هذه الفترة الطويلة على نحو جنوني متفاقم عاما بعد عام من دون ادنى ضوابط تذكر او محاسبة تشريعية أو قضائية أو رقابة أمنية رادعة. يشير التقرير الذي وصفته «اخبار الخليج« تحت عنوان مانشيتها الرئيسي في عددها الصادر يوم 11/12/2008 بـ «الخطير« إلى ان المناطق التي تم ردمها بجميع مناطق البحرين هي مناطق متضررة وبضمنها سواحل أكبر واعرق مدينتين شمال العاصمة وجنوبها وسواحل جزيرة المدينة الثانية في البلاد «المحرق«، كما ينذر التقرير من تدهور المزيد من البيئات الغنية بالتنوع البيولوجي المجاورة لمناطق الدفان مما سيؤدي إلى الاجهاز على الكائنات الحية وتلويث وتعكير المياه البحرية والتناقص السريع في مخزون الثروة السمكية التي تعتمد عليها شريحة كبيرة من المواطنين في غذائها اليومي، ناهيك عن تعرض مهنة الصيد للانقراض، ومما زاد من تفاقم حدة الازمة البيئية البحرية، كما يذكر التقرير، كون اغلب مشاريع الردم والدفان تجرى متواصلة على قدم وساق من دون تراخيص رسمية قانونية (انظر «اخبار الخليج«، نفس العدد). ومن الجدير بالذكر أيضا ما أكده تقرير «الهيئة العامة لحماية الثروة البحرية والبيئة والحياة الفطرية« ذاته أن المناطق الساحلية المنكوبة هي من اغنى البيئات البحرية وأكثرها تنوعا على الاطلاق، في حين ادت عمليات الردم والدفان العشوائى الهمجية إلى فقدان التنوع البيولوجي من بيئات احيائية بحرية، ومصادر جينية.. الخ، ناهيك عن تدمير مناطق التكاثر والتغذية للكائنات البحرية وفقدان هذه الحاضنات البيئية مصادر التغذية التي تقتات منها تلك الكائنات البحرية، وكان النائب ناصر الفضالة رئيس لجنة التحقيق النيابية في تلوث البيئة البحرية قد صرح للصحافة المحلية بأن سواحل البلاد وبحرها تتعرض للتدمير لصالح مشاريع تستنزف ثروات البلد الطبيعية واصفا وضع هذه السواحل في ضوء جولة عمل بحرية تفقدية قام بها اعضاء لجنة التحقيق النيابية بأنه امر محزن لان معظم الجزر المدفونة لجهات خاصة، وان المنطقة المدفونة المخصصة لمشروع اقامة المدينة الشمالية تنشر تلوثا لمساحات شاسعة، وان دفان المناطق التي اقيم عليها المرفأ المالي، وجزيرة «امواج« و«ديار المحرق«، كلها جرت وفق عمليات مدمرة للبيئة البحرية، وان الحجارة التي توضع بحجة حماية البيئة البحرية هي لحماية رمل المالك، وان خليج توبلي تنبعث منه روائح كريهة، وان لا سواحل عامة، وان دفان مشروع الدرة يستفيد منه ساكنو هذا المشروع فقط، وان مثل هذه المشاريع تنذر بمخاطر وكوارث بيئية بحرية منتظرة. وإذ نكتفي بهذا القدر من أهم ما تضمنه تقرير «الهيئة العامة لحماية الثروة البحرية والبيئة والحياة الفطرية« والتصريحات التي ادلى بها النائب ناصر الفضالة حول أهم النتائج التي خرجت بها لجنة التحقيق النيابية حول نفس الموضوع، وحيث يمكن الرجوع للمزيد من تفاصيل كل ذلك في التقرير الذي نشرته «أخبار الخليج« في العدد الآنف الذكر فان التساؤلات المهمة التي تطرح نفسها هنا هي: ماذا بعد كل تقرير رسمي يتسم بقدر معقول من الشفافية حول أي موضوع أو قضية وطنية آنية فائقة الأهمية؟ وماذا بعد كل تقرير نيابي تصدره السلطة التشريعية يتسم ايضا بقدر معقول من الشفافية والحقائق الموضوعية؟ هل المطلوب كانجاز اصدار هذه التقارير الموضوعية الشفافة في حد ذاتها سواء صدرت عن احدى غرفتى السلطة التشريعية، كمجلس النواب، أم عن أي جهة تمثل السلطة التنفيذية كديوان الرقابة المالية و«الهيئة العامة لحماية الثروة البحرية والبيئة والحياة الفطرية«؟ ثم كفى الله المؤمنين شر القتال بعد «شوية« زوبعة من اثارة الضجة الصحفية، و«شوية« من إثارة الزوبعة تحت قبة البرلمان؟ ثم تعود المياه إلى مجاريها لا اقصد هنا المياه البحرية بل مياه الكارثة البيئية كما هي عليه ماضية قدما وتفاقما في تدمير ما تبقى من البيئة البحرية ان يكن تبقى شيء منها؟ الم تصدر قبل مثل هذه التقارير تقارير اشرفت عليها بعض الجهات الرسمية العليا استقدمت افضل الخبراء العالميين في البيئة البحرية نظير أموال طائلة، ثم اودعت توصياتها الارشيف أو الادراج وراحت هباء منثورا؟ وقبلها ألم تصدر تقارير اشرفت عليها ذات الجهات الرسمية العليا حول حقائق مذهلة عن مستوى المعيشة في البحرين ومعدل الفقر والبطالة والمستوى الادنى المفترض للأجور الكفيل بحياة كريمة للأسرة البحرينية، ثم أودعت ايضا ارشيفات الدوائر الرسمية اعقبتها تقارير رسمية تنسف وتناقض لا بل اعقبتها تقارير رسمية لا ترقى للموضوعية لانها تنسف وتتناقض مع ما سبق ان صدر من دراسات وتقارير رسمية سابقة تتسم بالمصارحة والشفافية في ورش ومنتديات اشرفت عليها ذات الجهات الرسمية العليا؟ والحال انه ما لم يستفد على نحو جدي من هذه التقارير الرسمية والبرلمانية الموضوعية لوضع آليات تشريعية ورقابية صارمة لعلاج كل تلك المشاكل والازمات الآنية المزمنة ووضع حد لها فاننا سنبقى نتغنى بانجازات التقارير الموضوعية الشفافة تلو التقارير الشفافة، لكن ستظل مشاكلنا وازماتنا هذه تراوح مكانها وتتفاقم فكأنك بالتالي يا زيد ما غزيت.

صحيفة اخبار الخليج
22 ديسمبر 2008