المنشور

الكوارث لم تأتِ بعد

يتعرض وضع المنطقة لجملة تغييرات كبيرة، يتداخل فيها الإيجابي والسلبي، القومي والعالمي، الديني والوطني، الإصلاحي والاستبدادي، الحرية والهيمنة، إلى درجة مذهلة مخيفة.
التحالف الدولي يتوجه للخروج من العراق بعد أن تأسست دويلات طائفية، وارتفعت الجماعات الشمولية الدينية، ولن تكون قبضة هذا التحالف في عهد الرئيس الأمريكي الجديد مثلها مثل العهد السابق، فسوف تتراخى حتماً مما يوهم الجماعات والدول الطائفية بأنها على طريق الانتصار والتوسع، ويترافق هذا مع أزمة اقتصادية عالمية ستؤدي إلى تسريحات عمالية كبيرة وتزايد الافقار لجماهير كبيرة، ويمثل هذا عهداً خصباً للقوى الشمولية والفاشية المتصاعدة الحضور في سفك الدماء.
كما أن الدول الشرقية الاستبدادية لاتزال قوية ويعود بعضها للحضور على ساحة المنطقة وتجد تجارة السلاح أقوى سوق لها.
والتفكك في قيادة الدول الغربية قائدة العالم الديمقراطي سوف يتصاعد كذلك، إن لم تنضم قوى الدول الشرقية الكبيرة لهذا التحالف من أجل حصار الارهابيين والطائفيين والقراصنة، وتدع مشروعات التوسع والتجارة بالسلاح.
إن الصراع في العراق سيكون المختبر السياسي للمنطقة، فهل تتغلب القوى السياسية المتجهة للوطنية العراقية أم ستنتصر القوى الطائفية والقومية الاستبدادية التي لم تشبع من الدمار بعد؟
وليس للمذهبيين السياسيين أي توجه لمساندة العمال والفلاحين، فهم قوى استغلالية تريد نهب القاعدة الشعبية العريضة كالانظمة التي تحاربها كما تقول، ولهذا سوف يحتمون بالكلام العام المحنط الديني، ويجمعون الثروات ويتسلقون ويصيرون من قوى الاستغلال التي نمت عبر نقص الديمقراطية، وعبر جهل الجماهير الفقيرة نفسها.
ولن تكون العناصر النظيفة والتحديثية والعلمانية بينها سوى أقلية ضائعة الصوت والتأثير.
بطبيعة الحال تتيح الاتفاقية الأمنية المعقودة بين العراق والولايات المتحدة فرملة لهذا السيناريو المخيف ولعدم الانزلاق الكلي للدويلات الطائفية المتحاربة.
لكن عمليات الانسحاب الكبيرة سوف تشجع القتل والمذابح والكوارث، والتدخلات الخارجية في العراق، لزيادة حصص الدول الخارجية الشمولية المناطقية، ودون أن تلوح في الأفق وحدة وطنية عراقية على أسس العلمانية والحداثة والعروبة والإسلام والديمقراطية.
فكل هذه التكوينات السياسية ظهرت من بحر العماء السياسي، ومن الجهل الجماهيري الرهيب، أو من الانتهازية وتسلق بيروقراطيات الدول الشرقية أو الغربية، ولم يستطع حزب عراقي واحد أن يثبت جماهيريته الوطنية، وسوف يعود جهازا الدولة والجيش ليملآ الفراغ.
إن السيناريو العراقي قد ينتشر، ويتفاقم الصراع الطائفي المحوري بين الشيعة والسنة، ويتخذ له أبعاداً مناطقية – عالمية.
وسوف يكون برنامج التوسع وخلق الاضطرابات مبنياً على أن الدول الموالية للغرب تكون مسرحاً لعمليات الدول المعادية للغرب، كي تنتزع من الغرب ومن هذه الدول اعترافاً بحضورها المركزي في المنطقة.
وإذا كان الصومال تـُرك كلياً فلعدم أهميته النفطية، لكن أهميته الجغرافية نسيت، فظهر صومال الحرب الأهلية الدموية المجنونة، والقرصنة.
وهذا يحدث للعراق بدرجة أقل ثم لأفغانستان، وهذا يدل على أن (الديمقراطية) المنشورة لم تقم على مصالح الأغلبية الشعبية، فكانت بالأفق الأمريكي المحافظ، ولم تقدم مساعدات جذرية للعمال والفلاحين والنساء، لتبعد هذه الجماهير المحرومة عن مصائد الطائفيين وتجارتهم بالدين.
ولهذا ينبغي للإدارة الأمريكية الجديدة أن تنعطف بهذه الديمقراطية الشكلية نحو إحداث إصلاحات عميقة في الأرض والعلاقات البيتية العتيقة وفي أوضاع الصناعات المتردية عبر دعم القطاعات العامة والصناعات الخاصة، وإذا واصلت نفس سياسات المحافظين الجدد الأمريكيين، بإصلاحات سياسية فوقية ونهب ثروات البنوك والنفط، فإن سيناريو العنف والطائفية سوف يتوسع وينبغي أن يجري ذلك عبر الحوار مع التنظيمات العلمانية واليسارية والحكومات المعتدلة، وليس عبر سياسات التدخل والأوامر.
إن منطقة بهذه المعايير لن تخرج بسهولة، وهناك جبال من الصعوبات، ولكن ترك المنطقة لـ (القدر) سوف يُزهق أرواح الملايين، ولابد من تعاون دول المنطقة والغرب الديمقراطي من أجل عدم الانزلاق هذا.
إن وجود الفراغ الأمني الإقليمي، وتمدد الدول الشمولية العسكري، وغياب الإصلاح للجمهور العريض الفقير، إن كل هذه ستكون آثارها وخيمة، فهي إما ستفجر الصراعات بين دول المنطقة، وإما تحدث ثورات عمياء عنفية، أو تمدد الصراعات الطائفية إلى دول جديدة فتظهر مزيدا من دول الاضطراب إضافة لدول العراق وافغانستان والصومال، إلى فلسطين ذات الظرف المختلف، لكن المشارك في دوامة التمزق والاضطراب.
إن عودة الوحدة الوطنية لكل شعب تعتمد على مدى اقتراب الدول العالمية والوطنية نفسها من الجمهور، فكلما زادت مقاربة هذه الدول من الجمهور وحلت مشكلاته المعيشية المتفاقمة، أمكن خفوت سيناريو الخراب، الذي تغذيه جماعاتُ التطرف المختلفة.
ولا شك أن تغير قيادة بوش ومجيء قيادة تلتفت إلى تطوير التنمية في هذه الدول وتدعم القطاعات العامة، وتقلص الحروب والنفقات العسكرية والجيوش الهائلة، وتضع حداً لهجرات العمال القاسية والفوضوية والمتاجرة بالملايين، وتعود إلى تعمير قوى الإنتاج في الصناعة والزراعة والعلوم التقنية في كل بلد، إن كل هذه الجوانب سوف تخفف من أزمات المنطقة.
إن وجود سياسة ديمقراطية عالمية إنتاجية وسلمية، ستكون هي المركز لمثل هذه العمليات التحويلية، فقوى التطرف لم تظهر إلا في ظروف القمع وتدهور المعيشة وتدني الأفكار الوطنية والعقلانية.
لكن هل ستظهر مثل هذه السياسة على صعيد عالمي وخاصة على صعيد الإدارة الأمريكية الجديدة، التي شئنا أم أبينا هي قيادة الكرة الأرضية، في السنوات الراهنة، أم أن الدول المناطقية الاستبدادية الطائفية سوف تقوضُ مثل هذه السياسة عن طريق تفجير العداء الطائفي كما تفعل في العراق والصومال وافغانستان؟!
وهل ستتمكن الدول العربية والإسلامية المعتدلة من التصدي لهذه السياسة ومن التعاون مع الغرب الديمقراطي بأفق ديمقراطي حقيقي مساند للأغلبية الشعبية، أم ستـُخترق هي الأخرى وتصير مثل الصومال في زمن يتدهور النفط فيه وتتعاظم الأسعار والأزمات؟!

صحيفة اخبار الخليج
21 ديسمبر 2008