المنشور

في‮ ‬اليوم العالمي‮ ‬لمكافحة الفساد‮.. ‬الفساد طاعون العصر

بالنسبة للكثير من الفاسدين في‮ ‬عالمنا الثالث ودولنا العربية تحديدا مرّ‮ ‬يوم التاسع من ديسمبر وكأنه برد وسلام،‮ ‬دون أن‮ ‬يستشعروا ولو شيئا من الرهبة وحتى لا نقول الخوف،‮ ‬بوجود أدنى محاسبة لهم ولأمثالهم ممن‮ ‬يفترض أن‮ ‬يقدموا للمساءلة والمحاكمات‮. ‬ففي‮ ‬مثل هذا اليوم صادقت الجمعية العامة للأمم المتحدة بموجب القرار‮٤٨٥ ‬باعتباره‮ ‬يوما دوليا لمكافحة الفساد والذي‮ ‬جاء تتويجا لمناشدات الكثير من المؤسسات والجهات الأهلية الدولية المعنية بأمر مكافحة الفساد،‮ ‬كما نصت اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد على منع كافة أشكال الفسادَين المالي‮ ‬والإداري‮ ‬والتحري‮ ‬عنهما‮ – ‬والأهم من ذلك‮ – ‬ملاحقة مرتكبيهما وعلى تجميد وحجز وإرجاع العائدات المتأتية من ممارساتهم الفاسدة تلك،‮ ‬وبحسب الاتفاقية تقوم كل دولة وافقت على تخصيص ذلك اليوم وعلى اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد بوضع وتنفيذ وترسيخ سياسات فعالة منسقة لمجابهة الفساد،‮ ‬وأن تعزز مشاركة المجتمع المدني‮ ‬للقيام بتلك المهمة والتي‮ ‬ربطتها الاتفاقية ربطا موضوعيا بترسيخ مبادئ سيادة القانون وحسن إدارة الشؤون والممتلكات العامة وتحقيق ممارسات الشفافية والنزاهة والمساءلة‮. ‬كما وأكدت الاتفاقية على أن تقوم الدول الموقعة عليها بإرساء وترويج ممارسات فعالة لمنع الفساد،‮ ‬والقيام بتقييم دوري‮ ‬لكافة القوانين والتدابير الإدارية ذات الصلة‮.‬
وقد احتلت قضية مكافحة الفساد في‮ ‬دول العالم الثالث وتحديدا في‮ ‬العديد من دولنا العربية،‮ ‬احتلت مساحات واسعة من الحوارات والنقاشات الدائرة،‮ ‬وذلك بالنظر الى أن مواردنا الوطنية سواء المحدودة منها أو الفائضة إن وجدت‮.. ‬أصبحت عرضة لعمليات نهب منظم ومصادرة لم تتوقف منذ عقود،‮ ‬في‮ ‬ظل تراجع مستويات النزاهة والإفصاح،‮ ‬خاصة مع وجود ذلك الخلل المهول في‮ ‬تخلف أدوات الرقابة والمساءلة التي‮ ‬من المفترض أن تقوم بها البرلمانات والجهات الرقابية ذات الاستقلالية المطلوبة،‮ ‬حيث إن‮ ‬غياب الممارسات الديمقراطية القويمة والفعّالة أصبح‮ ‬يستغل من قبل الجهات النافذة في‮ ‬مواقع صناعة القرار وكذلك في‮ ‬البرلمانات التي‮ ‬أصبحت هي‮ ‬الأخرى مواقع نفوذ لتيارات وجهات وأحزاب وطوائف وفئات بعينها،‮ ‬في‮ ‬تقاسم‮ ‬غير معلن أو مكتوب على الأرجح للأدوار والمصالح بحسب ما تقتضيه سياسات تلك الدول ومصالح الطبقات المسيطرة فيها‮.‬
وفي‮ ‬ظل التأزمات المالية والاقتصادية العالمية الراهنة والتي‮ ‬داهمت الجميع من حكومات وصناع قرار وسياسيين وحقوقيين،
‮ ‬يأتي‮ ‬الحديث عن الفساد والمفسدين مجددا أشد حضورا وتكون آثاره أكثر وقعا وألماً‮ ‬أيضا‮. ‬فبعد سنوات من تراكم الوفرة النفطية التي‮ ‬شكلت بعاوئدها الضخمة ستارا واقياً‮ ‬لغالبية دولنا المعتمدة أساسا على ما توفره تلك السلعة العالمية من عوائد،‮ ‬ها نحن نشهد ومعنا العالم هذه المرة،‮ ‬حجم التراجع المخيف في‮ ‬تلك العوائد التي‮ ‬لم تستطع دولنا وبكل أسف أن تستفيد من وفرتها لتبتدع لاقتصاداتها القومية مداخيل جديدة كتلك التي‮ ‬تستطيع أن توفرها مجالات الصناعة وقنوات الاستثمار والتجارة المتنوعة الأخرى،‮ ‬مما سيجعل معه دولنا لا محالة أكثر انكشافا أمام مواطنيها والعالم،‮ ‬لنكون جميعنا تحت رحمة واقع إقليمي‮ ‬ودولي‮ ‬يتشكل من حولنا بكل مستجداته الاقتصادية والسياسية دون أن تكون لنا القدرة حتى على مجرد إبداء الرأي‮ ‬عوضا عن محاولة التأثير فيه‮.‬
إن حكومات عالمنا الثالث لا تبدي‮ ‬اكتراثاً‮ ‬لدعوات مكافحة الفساد،‮ ‬الذي‮ ‬أصبح معلوما لدى الجميع حجم ما‮ ‬يستنزفه من موارد ومداخيل هائلة نحن في‮ ‬أمس الحاجة لاستعادتها ووضع حد لنزفها الذي‮ ‬لا‮ ‬يراد له أن‮ ‬يتوقف‮. ‬
أمر محيّر حقاً‮… ‬فكيف لا‮ ‬يكلف هؤلاء أنفسهم مجرد عناء الدعوة لوقف النزف المستمر لمواردنا المالية الذي‮ ‬تصادره قوى الفساد؟ وكيف لا تتم المطالبة بتقديم من تعدّوا على المال العام للمحاكم وهم الذين‮ ‬يتنعمون بوجاهاتهم؟‮! ‬وكيف‮ ‬يتم السكوت على استرخاص بيع أصول دولنا لصالح مشاريع الخصخصة التي‮ ‬تتعثر ويتم التراجع عنها حتى لدى من روجوا لها كمشاريع هيمنة على مقدرات وموارد دولنا،‮ ‬وذلك لصالح من‮ ‬يقبضون؟ ثم لماذا‮ ‬يتم تهميش قضية مكافحة الفسادين المالي‮ ‬والإداري‮ ‬من قبل البعض الذين ما انفكوا‮ ‬يشنفون آذاننا ليل نهار بمخاطر الفساد الأخلاقي،‮ ‬والذين استطاب لهم الحال أن‮ ‬يتحدثوا عن مجتمعاتنا وكأنها مواخير لا‮ ‬يوجد فيها إلا هم ملائكة مطهّرين ومؤمنين ودعاة فضيلة‮! ‬متناسين أن الفضيلة لا تتم الا عبر الدعوة والعمل بصدق لتحقيق مبادئ الحكم الصالح ومحاربة الفساد بعقيدة وإيمان راسخين دون مقايضة‮.‬
 
صحيفة الايام
21 ديسمبر 2008