المنشور

‮ ‬قراءة مواطن للرؤية الاقتصادية‮ (٤-٤)‬

كيف‮ ‬يمكننا أن نخلق جيلا قادرا على الابتكار والإنتاجية بعد عقود من الركود وأخلاقية عمل مختلفة وثقافة وبيئة‮ ‬غائبة لمثل تلك القيم؟‮ ‬
هذا السؤال سنناقشه مع مسألة دخل الفرد ووضع الأسرة الملتبس،‮ ‬خاصة وإننا نرغب في‮ ‬الحديث عن تلك الأسرة الشابة التي‮ ‬ستتعايش مع تطورات الرؤية‮ ‬يوما بيوم وتتلمسها سلبا وإيجابا كل لحظة‮. ‬ولكي‮ ‬يولد مجتمع جديد مختلف خلال العقدين القادمين،‮ ‬فإن المشروع الصحي‮ ‬لبناء ذلك المجتمع‮ ‬يقتضي‮ ‬التركيز الجاد على الجيل الفتي‮ ‬من حيث التعلم النوعي‮ ‬والذي‮ ‬سيؤهل البحرين في‮ ‬ريادتها وقدراتها التقنية والفنية والمهنية،‮ ‬خاصة وإننا نود أن نكون مركزا خليجيا لأمور عدة كما ذكرتها الرؤية،‮ ‬كونها مصدرا من مصادر تنويع الدخل والذي‮ ‬من جرائه تتحقق الرفاهية والازدهار‮. ‬لن أقدم توصيات أفضل مما كتبها التربويون أنفسهم وأصحاب العمل والمختصون حول تبديل تلك المناهج التعليمية وتدريب المعلمين والمخرجات وتنشئة الأطفال على قيم وثقافة وطنية وروح علمية لمعنى العمل والإنتاج والابتكار،‮ ‬والتي‮ ‬علينا الانطلاق بها منذ لحظة انطلاق الرؤية،‮ ‬لكي‮ ‬يكون أمامنا جيل شاب‮ ‬يدرك أهدافه ومتطلباته،‮ ‬فليس وظيفة التعليم إخراج متعلمين متبطلين بمؤهلات وتخصصات فائضة،‮ ‬إذ لن تكون الوزارات الحكومية بعد تلك الرؤية المكان الحاضن للتضخم الوظيفي‮   ‬ولعلنا نجد تلك الطروحات جادة في‮ ‬نهجها‮ – ‬وتبقى القضية الأكثر مقلقة هل ستستطيع الأسرة الشابة من متزوجين جدد الإيفاء بمتطلبات المعيشة إذا ما أخذنا بالاعتبار أن دخلهما قارب ‮٠٠٥ ‬دينار للفرد الواحد،‮ ‬وهل ستكون مجزية مع مصاريف عائلة بحرينية تخطت أعدادها الخمسة أفراد‮   ‬وهنا العلة التي‮ ‬لا بد والعمل عليها ثقافيا فلا‮ ‬يمكن أن تصبح الحياة رغيدة ودخل الفرد وعائلته اقل من مصاريفهما في‮ ‬ظل تضخم سنوي‮ ‬يقارب ‮٥ – ‬ومن هنا لا بد من التركيز على توعية المواطن البحريني‮ ‬الجديد الموجهة له الرؤية المستقبلية بحجم العائلة المنشودة،‮ ‬فمهما بحثنا عن تجارب شعوب وبلدان كسنغافورة وغيرها،‮ ‬فان ذلك لن‮ ‬يكون كافيا في‮ ‬بناء مجتمع مزدهر وبوضع معيشي‮ ‬جيد،‮ ‬فالمطلوب من المنظمات المدنية والمؤسسات الدينية والمناهج التعليمية تثبيت فكرة تحديد النسل أو التفكير بحجم عائلة صغيرة حتى وان لم نجرؤ حاليا على مناقشة تحديد أعداد حجم الأسرة البحرينية‮. ‬
ما تكلفه العائلات الكبيرة من مصاريف ونفقات للدولة ربما لن تستطيع حكومات المستقبل الإيفاء بها،‮ ‬وستبقى باستمرار إذا ما واصل الجيل القادم بذهنية التفريخ‮ ‬غير اللازم لأعداد أسرته،‮ ‬حالة الفقر التي‮ ‬تحاول البحرين الخروج من لطختها كدولة خليجية،‮ ‬فالإعانات المستمرة ليست إلا نوعا من الحقن الاصطناعي‮ ‬لإنقاذ الوضع المعيشي‮ ‬للأسرة البحرينية،‮ ‬التي‮ ‬تحتاج أن تدرك ما معنى ترشيد الاستهلاك والإهدار الفائق في‮ ‬حياتها وثقافتها‮. ‬ما تؤكد عليه الرؤية في‮ ‬أكثر من موضع أن المستقبل ليس ورديا‮   ‬دون الإشارة لتلك العبارة‮ – ‬إذا ما استمر المجتمع على هذا المنوال في‮ ‬أسواق عالمية متطورة ومنافسة ومتفوقة،‮ ‬وعلى الشعب البحريني‮ ‬حاليا ومستقبلا إعداد نفسه لمعركة تنموية شديدة وقوية ومكابرة وصعبة لن تحل معضلتها بسهولة،‮ ‬إذا ما تراخينا،‮ ‬وتوهمنا أن مجرد احتجاجات‮ ‬غاضبة واعتصامات عاجلة ستحلها،‮ ‬فكل القضايا المستعصية مستقبليا مرهونة بالعمل والتقدم العالمي‮ ‬وتشابكه اقتصاديا،‮ ‬فليس بالعنتريات تنجز المطالب والحقوق في‮ ‬سوق لا ترحم‮. ‬
الشعوب التي‮ ‬تنظر للبعيد وتستعد للمصائب وتتكيف مع المتغيرات والتقلبات وتأخذ بناصية العلم والعمل المثابر هي‮ ‬وحدها الشعوب التي‮ ‬ستكون مستقرة ومتوازنة مع ظروفها ومحيطها‮. ‬ما طرحته ورقة الرؤية كوثيقة تاريخية من تطلعات وأهداف وتحديات،‮ ‬حددت لنا خلاصة المسار التاريخي‮ ‬للبحرين اقتصاديا،‮ ‬حيث مررنا بمنعطفين كبيرين،‮ ‬هما اقتصاد الغوص أو اقتصاد ما قبل النفط ثم المنعطف الثاني‮ ‬وهو اقتصاد النفط أما المنعطف الثالث والقادم هو اقتصاد ما بعد النفط،‮ ‬والذي‮ ‬ستقع مواجهة تحدياته على عاتق جيل الميثاق فهو وحده الذي‮ ‬سيكون نظامه التعليمي‮ ‬مختلف وثقافته وبيئته مختلفة،‮ ‬ومن أهم تلك الثقافة الجديدة هو التركيز على محور الوطن والمواطن وتربيته على الحريات والحقوق والنقاش الحر الواعي‮ ‬المسؤول،‮ ‬وتعلم ثقافة النقد والمكاشفة والشفافية والنزاهة ومناهضة الفساد وصيانة البيئة والثقافة الوطنية واحترام قيم العمل والإنتاجية والابتكار،‮ ‬مواطن‮ ‬ينتمي‮ ‬لمرحلتنا القادمة ويعي‮ ‬أولوياته وخياراته في‮ ‬محاربة كل ما‮ ‬يهدم ويمزق التماسك الوطني‮ ‬للوطن ويواجه كل بواعث شريرة لنشر الطائفية والقبلية والامتيازات وإرساء دولة القانون واحترام المؤسسات الشرعية وديمومة الأمن والاستقرار الاجتماعيين،‮ ‬والابتعاد عن كل أشكال العنف ومعالجة كل مشاكلنا الصغيرة الكبيرة بالحوار ووضع الحلول الناجعة لها بكل مصداقية وجدية،‮ ‬ولن‮ ‬يتحقق ذلك كله لمجرد أن ورقتنا‮ (‬الرؤية‮) ‬نصوصها جميلة ورائعة وإنما بجعل روح تلك النصوص الميتة شجرة خضراء كالحياة،‮ ‬بجعل جميع أطراف المعادلة متعادلين دائما وراضين عن توزيع ثروتهم ودخلهم الوطني‮. ‬
لقد قدم لنا التاريخ تجارب ودروسا للاقتتال بين الأخوة،‮ ‬بين هابيل وقابيل،‮ ‬وقد ورثنا كل تلك العلاقة والقيم،‮ ‬حتى صار تاريخ الإنسانية إراقة من الدماء لم تتوقف بعد،‮ ‬ونزاعا لم‮ ‬يهدأ إلا قليلا،‮ ‬وعلينا أن نخرج من تلك الدائرة العنيفة وحياة البؤس والفقر والحرمان،‮ ‬فهل تنفعنا تجربة سنغافورة الهادئة؟ أم نحاول المزج بين تراثنا وثقافتنا بثقافات إنسانية متنوعة تستلهم البحرين خلاصة زبدتها المفيدة،‮ ‬فالابتكار العقلاني‮ ‬للتحولات التاريخية للشعوب هو البحث عما هو ممكن كقدرات ذاتية وداخلية ومواءمتها مع شروط خارجية ممكنة‮. ‬وطالما عاش إنسان مرحلة الغوص بإرادة عمل معطاءة في‮ ‬ظروف عمل قاسية للغاية،‮ ‬فإن أجيال النفط الأوائل برهنوا أنهم فنيون ومبدعون في‮ ‬أعمال التابلاين،‮ ‬الذي‮ ‬وصلت أنابيبه حتى الحدود التركية،‮ ‬فان الجيل الحالي‮ ‬والقادم سيكون مبدعا وخلاقا،‮ ‬فكل قيم العمل وإبداعاتها المبتكرة‮ ‬ينتجها النظام المهني‮ ‬والأخلاقي‮ ‬والاجتماعي‮ ‬لسلوك الناس وعاداتهم وحرصهم على استمرار عيشهم الكريم‮.
 
صحيفة الايام
21 ديسمبر 2008