المنشور

ماضي العمل السياسي ومستقبله

إذا كانت الوطنية البحرينية خلال القرن العشرين تمت بأداة وعي سياسي قومي وتقدمي وإسلامي علماني، فإنها تتكرس الآن بقوة في الوعي العلماني الديمقراطي التحديثي. لقد قام التجارُ والشيوخ والفلاحون والعمال اليدويون والمثقفون بدورهم في بلورة هذه الوطنية في زمن الموجات السائدة في القرنين التاسع عشر والعشرين، لكن في زمنية القرن الحادي والعشرين تحتاج هذه الوطنية إلى عقليات جديدة أكثر عمقاً وأقوى انتماءً للوطن. إن الاتجاه الليبرالي الذي ظهر من بين التجار في عقود القرن العشرين الأولى والذي كان محملاً بتقليدية كبيرة، ولم ينم صلات تحويلية مع العاملين، ولم ينشئ ثقافة ديمقراطية، ما لبث أن اتحد بالاتجاه القومي الشمولي الذي ظهر في البحرين على شكل مغامرات حادة وحماس عاطفي. وهكذا فإن الخسارة كانت مزدوجة: ضعف في الليبرالية وعدم تأصلها، ودخولها في الحركة القومية التي ظلت شعارية لم تنتج قراءة معمقة للواقع. وكانت الحركة الماركسية أقرب للبلد بحكم قراءتها للواقع المحلي، وتركيزها على البحرين حرية وثقافة ديمقراطية، ولم تتأذ كثيراً من القولبة السوفيتية لأنها ظلت في مهمات التحرير الوطني ونشر الثقافة التنويرية. وحين أفقدتها الضربات الأمنية والسياسية حضورها تماهت بعضُ عناصرها مع الحركات المذهبية السياسية المعارضة من دون أن تحافظ على استقلالها الفكري وتقرأ هذه التجربة المذهبية بعمقها المتوجه لتقسيم المنطقة وتقسيم البلد وتعميق الانقسام بين المسلمين. وتوجهت قواعدُ الحركات اليسارية التي ذابت مع عدم وجود مراكز تأصيلية وطنية للفكر إلى التشتت ومقاربة الاتجاهات المذهبية وملاحقة الشؤون اليومية البسيطة المحدودة. وزايد بعضُ من ركب موجات الحركات الليبرالية والقومية واليسارية في الانتماء للحركات المذهبية السياسية وتعمية دروبها التائهة ودفعها نحو المزيد من المغالاة والتطرف، مثلما فعل تجاه الحركات السابقة، بدلاً من تصويب خطواتها وتحذيرها من المغامرات والارتباطات الخارجية ومتابعة أجندات إقليمية خطرة. ونجد هؤلاء قلة نادرة لكنهم قادرون على تكريس الانقسام وخلق الصراعات الداخلية بين القوى الوطنية، بسبب تضخمهم الذاتي وعدم مشاركتهم في النضال الحزبي اليومي خلال العقود السابقة، وعدم دفعهم لضرائبه في المعتقلات، وعدم ممارستهم الكتابة التحليلية والنقدية للعمل السياسي البحريني خلال كل السنوات السابقة. ومن هنا تأتي مغالاتهم وتحريضهم للحركات المذهبية للمزيد من التطرف والانفصال عن حركة العصر الديمقراطية العلمانية دفعاً لها لزقاق مسدود تـُدمر فيه، وقد يكون هذا بحسن نية وقد يكون بسوء نية، لكن هذا يعبر عن التمسك بخيار الحركة المذهبية المتطرفة للصدام مع النظام إلى غايته القصوى. من دون أن يقبلوا تحليل مثل هذه المواقف، وكيف أن الجمهور البحريني بأغلبيته راح ينفصلُ عنهم، ولا يقبل الدخول في هذه الأعمال القصوى، الذي يدلُ تمحورُها على فئةٍ قليلة، ولجوئها لأساليب حادة، إلى دخولها هذا المأزق. ولكن قبل كل شيء فإن هذا الزقاق المسدود الذي دخلته كان دخوله منذ البداية، عبر تكوين تجمعات مذهبية غير وطنية، واستيراد تجارب وتنظيمات من الخارج، وقيام هؤلاء المثقفين الدينيين بالنفخ والتحريض العاطفي الشديد في العاملين والبسطاء المحرومين. وإذا كان العبور من الشاطئ الإيراني للشاطئ العربي قد جرى لحركات قديمة مناضلة، في زمن العصر الوسيط الديني، إلا أن هذا الانتقال الذي جرى في العصر الحديث جرى في عصر قومي حديث، حيث أخذ العرب بالتحسس مما يُنقل من الشاطئ الإيراني، فتفجرت حساسيتان قومية عربية، وقومية فارسية، ومذهبية سنية ومذهبية شيعية. وإذا أخذنا حتى الحركة الماركسية البحرينية التي ظهرت في الخمسينيات من تأثير بعض المثقفين والعمال الإيرانيين، إلا أن هذه الحركة رفضت التبعية لإيران والتماهي في تجربتها، واندمجت في الوطنية البحرينية التي راحت هي التي تحدد خطوات تطورها. ومن هنا فإن الدهشة كبيرة من قيام تلك العناصر النادرة (القومية) والشديدة التعصب للعروبة وللسنة فيما مضى، باحتضان مثل هذه التوجهات المذهبية المتطرفة، التي بدأت التيارات المذهبية بالابتعاد عن غلوها، رغم أنها لم تترك معارضتها، التي تزداد إيجابية كلما التحمت بخطوط النضال البحرينية، وتخلت عن مرجعياتها المذهبية السياسية المستوردة. ولكن هذا السياق المتدهور لهكذا وعي بين تلك القلة النادرة التي راهنت على أقصى صدام مذهبي مع النظام، الذي بررتهُ بإيجاد دستور ديمقراطي كامل، وبتشكيل مجتمع آخر، لكنها في المجرى الحقيقي لهذه الأهداف(العظيمة) تقوم بتأسيس مجتمع طائفي سياسي وتريد هيمنة طائفية معينة، كذلك تقوم بالانعزال المستمر عن مجرى النضال الديمقراطي الوطني حتى تغدو أفعالها مجرد ضربات عنف طائشة، وكتابات هزيلة، لا تحفر في تجربة البلد الوطنية، بل تبرر الحركات المذهبية وبرامجها لتقسيم البحرين. كذلك فإن خبرات العقود الطويلة من النضال الليبرالي والقومي واليساري سرعان ما نستها، إذا كانت قد وعتها، مما يدل على تلك الانعزالية الاجتماعية وعدم الاحتكاك بالحراك الوطني الساخن، بسبب رؤيتها التأملية الباردة، وانتهازيتها المتدنية. ولهذا نجد أكثر المتحمسين لمثل هذه الشعارات ممن انعزل عن مجرى النضال الوطني العام الذي يبدأ بالظهور، وراح يقدم أوامره ويطالب بالعودة الدائمة للكتالوج الطائفي. أو تراهم يظهرون من أوساط معينة تريد استمرار الصراعات الطائفية، واستمرار موجات التدخل بين الشاطئين الإيراني والعربي، لعدم نسيانهم الثارات القديمة، أو بسبب سذاجتهم السياسية، التي ترى ان كل ما نبع من طائفتنا هو الصحيح. ومثل تلك العناصر المنعزلة المروجة لهذا ترتكز على بطء التغييرات الاجتماعية الإيجابية وكون القوى الغنية لها برنامجها الذي لا يأبه بالمشكلات الشعبية الحادة، أو يعتمد على الحراك العفوي من دون خطط دقيقة لضرب الفقر والبطالة في البلد. إن العديد من القوى السياسية المشاركة في العمل السياسي ما لم تأخذ مسائل إلغاء الطائفية السياسية والاجتماعية، ورفع مستوى حياة الجمهور المعيشية وتطوير الثقافة الجماهيرية باتجاه التنوير، بعين الاعتبار لكن على مدى طويل، فلا يمكن أن تتحقق التغيرات المأمولة بين عشية وضحاها، وهي تحتاج إلى إصطفاف وطني.

صحيفة اخبار الخليج
18 ديسمبر 2008