المنشور

الاستيراد الفكري لدى زكريا إبراهيم (4 – 4)

يواصل برجسون تركيب المتضادات غير القابلة للاندماج الصراعي، فهناك التضاد بين الدماغ وبين الفكر، والتناقض اللاتركيبي بين اللغة المصورة واللغة المجردة، والتناقض بين المكان والزمان الخ..
فالمادةُ كالجبال والأنهار رغم أنها مادةٌ صماء أو سائلةٌ لا يمكن أن نفصلها عن الحياة، رغم أنهما مستويان متمايزان، من الوجود. فمن دون هذه المادة لم تتشكل الحياة.
والدماغُ هو مركزُ التفكير وغرفةُ القيادة للجسم والوعي ولكن العمليات النفسية – الفكرية لا تغدو عمليات بيولوجية محضةً بل تصيرُ بناءات نفسية وفكرية مستقلة نسبياً عن الوجود الجسمي رغم ان هذا هو أساسها المادي. ويقوم برجسون بإيجاد فجوةٍ مصطنعةٍ بين الوعي و(النفس) التي يعيد تشكيلها ميتافيزيقياً، بحيث تخرجُ عن مناطق الدماغ والوعي والشعور وتغدو منطقةً غيبية روحية محضة، كجزءٍ من رؤيته بإعادة إنتاج الصوفية بشكل حديث وأوروبي، ومقولة النفس الخارقة قوة ايديولوجية كبيرة في الفلسفات المثالية الذاتية المضادة للعقل.
كذلك هو يقيمُ تضاداً لا يقبل الجمعَ المركب بين الذات الإنسانية والبنية الاجتماعية :
(إذا أمعنا النظر في حياتنا النفسية، فإننا لابد من أن نجد أنفسنا بازاء تغير كيفي محض وديمومة مستمرة لا تعرف التجانس.. فالذات ليست حقيقة مكانية تقبل القياس، بل ديمومة محضة لا تمت بصلة إلى المكان والزمان اللذين تتحدث عنهما العلوم الطبيعية)، (ص60 ).
تلعب مفرداتُ الذات، والزمان، والمكان، والسيولة، دوراً مركزياً مهيمنا، حيث تغدو كلها تابعةً للذات المطلقة، التي هي بلا زمان ولا مكان موضوعيين، لأن الذاتَ الفرديةَ المسيطرة على كافةِ الأبنية الموضوعية، تلغي وجودَها داخل البنية الاجتماعية.
فهي ذاتٌ مجردة، سائلة، وتبرر سيولتها بالزمان المتدفق المتحرك، وكأن الزمانَ المتدفقَ المتحركَ بلا فواصل نوعية، وبلا تراكمات موضوعية، فهو مجردُ سيولةٍ.
إن الزمانَ والمكان باعتبارهما شكلين أو وجهين للمادة، يُـلغيان. والمادة الأكثر قصداً هنا هي المادة الاجتماعية، أي البنية الاجتماعية. فالزمان يجري خارج البُنى الاجتماعية، وكأنه متماثل فيها كلها، وكأن الزمان والمكان في العصر الإقطاعي مثلاً هما كذلك في الزمان والمكان الرأسماليين. إن الزمانَ الإقطاعي الراكد، البطيء، المتماثل، ليس هو الزمان في العصر الحديث، أي أن له هنا كثافته وسرعته، فليست السنة هي نفسها ولا اليوم، وكذلك فإن المكانَ لم يعد هو المكان، فالقرى النائية وأشكال السواحل والكثير من المواقع والمدن الصغيرة والطرق الضيقة والعربات لم تعد هي نفسها، وذلك ليس بشكلٍ مجردٍ ولكن من خلال البنية الاجتماعية التي تحولت وحولت الأشكالَ المرتبطة بها، أي بسبب تحول المادة.
ومن هنا لا نستطيع أن نفهمَ الذاتَ بشكلِ سيلٍ مجرد، أو حتى من خلال تدفق ملموس جزئي واسع، بل من خلال تكوناتها في البنية الاجتماعية، فزمان العامل المربوط بآلته، هو غير زمان المثقف الحر المنعزل في مكانه، غير زمان امرأة البيت، غير زمان امرأة العمل الخ.. إن للزمان تمظهراً موضوعياً يعود للبنية وتضاريسها الاجتماعية داخل الطبقات والفئات والأفراد والمراحل والدول والمناطق الخ.. فزمان ذات المثقف الحر في نيجيريا يختلف عن زمنه نظيره الفرنسي، لأن هناك زمانا موضوعيا بفرنسا وأوروبا، هو غير الزمان الموضوعي في افريقيا الخ.. ففرنسا تعيش زمان الرأسمالية المتقدمة في حين تعيش نيجيريا في نهاية العصر الوسيط وتبدأ الانتقال للعصر الحديث فهناك مسافة زمنية بعدة قرون.
إن الزمانَ كتدفقِ الثواني والدقائق، أي كزمانٍ مجرد مطلق، هو واحد، رغم أن الجغرافيا ذاتها ترفضه، فهو حتى في ساعاته مختلف، ولكن هناك أساسا موضوعيا عاما للنهار والليل والسنة للبشرية المعاصرة، وهو زمانٌ عالمي تاريخي متكونٌ حديثاً الخ، ولكن بشكلٍ مجرد عام نظراً لعدم توحد البُنى الاجتماعية بشريا، ولهذا يغدو الزمان تابعاً للتضاريس الاجتماعية المتنوعة في كل مكان.
وهذا مثال آخر للتناقض غير الجدلي وهو هنا بين موضوعية الظاهرات وديمومتها، فبرجسون يتصور بأن ثمة تناقضاً بين موضوعية الظاهرات واستمرارها، معتقداً أن هذا يمثل ثباتاً في الوجود وانتهاءً له، في حين ان الثبات في هذه الظاهرات هو ثبات نسبي، كتكرر الفصول، فالفصول تتكرر على مدى الحقب، ولكن ذلك لا يعني أن الطبيعة جامدة، ومن دون وجود تكرارية لهذه الفصول ومعرفتي بها تستحيل الزراعة والإبحار والوجود البشري العملي المتنوع ويتحول الزمان إلى فوضى.
إن كل الركائز الُمطاح بها في الفلسفة البرجسونية تقام مكانها ركائز ذاتية، فثمة (قوة حيوية) هي التي تخترق المادة وتحفر فيها مجرى، وهذه القوة القادمة من السماء تشكل هذه الديمومة التي تجعل الزمان والمكان في سيل متدفق واحد، فتضع داخل المادة حياة، فالحياة النباتية والحيوانية ليست ذات قوانين موضوعية لهذه المادة بل هي نتاج الفيض السماوي ذاك، والذي اتخذ اسم القوة الحيوية، ومن هنا فهذه الحياة السحرية الغامرة تندفع لتكّون الأحياء والمجتمعات والبشر حسب تدفقها الذي يحدده برجسون.
ومن هنا توجد عقيدةٌ منغلقة وعقيدة منفتحة. فالمجتمع البدائي يشكله فردٌ وكأنه المجتمع الفرنسي المعاصر، وهذا الفرد تتحكم به غريزة الحياة، وهي الشكل البشري المتجسد للقوة الحيوية السماوية السحرية عند برجسون، (وهكذا يندفعُ الفردُ إلى قهر الأنا الفردية التي قد تحفزه إلى إيثار مصلحته الذاتية على مصلحة الغير، خاضعاً في ذلك لغريزة الحياة التي تكمن وراء كل نظام اجتماعي )، ص .121
إن قوانينَ المجتمع البدائي وقوانينَ الحياة القبلية المدروسة من قبل العلماء كلها يطيحُ بها برجسون ليؤكد ان غريزة الحياة هي التي تشكل الظاهرات الاجتماعية، وكأن هذه الغريزة جوهر غيبي فوق الظروف. وتتويج مثل هذا الوعي يقود إلى: (وليست الحرب ظاهرة ضرورية لصيانة المِلكية الجمعية، بل إن كل ما يجيءُ معها من قتل وسلب ونهب وكذب وخداع وتضليل هي كلها ظواهر مشروعة تقرها الجماعة وتثيب عليها)!!!
وكل التضاريس التي يبتكرها للمجتمعات المغلقة المجتمعات المفتوحة، وللعقائد المنغلقة والعقائد المفتوحة، كلها تقوم على هذا الإسقاط الايديولوجي المسطح لغريزة الحياة وفيضها الإلهي البرجسوني، لتتّوج في المسيحية المحافظة، وهي المسيحية التي أُنتزعت تضاريسها النضالية، فهي أيضاً ايديولوجية مُسقطة على المسيحية الحقيقية، مسيحية النضال في زمن العبودية لتتحول إلى مسيحية الحب الخادع المخفي للصراع الاجتماعي على المستوى القومي الفرنسي وعلى المستوى العالمي.

صحيفة اخبار الخليج
17 ديسمبر 2008