المنشور

حول ضجة زيارة عون لسوريا

على الرغم من المصالحة التي جرت في الدوحة بين قوى المعارضة من جهة وقوى الموالاة “14 آذار” من جهة أخرى، وهي المصالحة التي افضت إلى انتخاب العماد ميشال سليمان رئيسا جديدا للبنان، ومن ثم تشكيل حكومة جديدة، وتحقيق جولات أخرى من المصالحات الأخرى خاصة بين القوى السياسية المسيحية المنقسمة بين المعسكرين المتصارعين، فإن تداعيات وذيول هذا النزاع بين المعسكرين وغيومها مازالت تخيم على البلاد ولم تتبدد تماما، ولعل آخر اشكال هذه التداعيات المستمرة والمتجددة الضجة، التي لم تهدأ بعد، حول الزيارة التاريخية المفاجأة غير المسبوقة التي قام بها أحد اقطاب معسكر المعارضة ممثلا في رئيس تكتل “التغيير والإصلاح” ميشال عون إلى دمشق، وهي الضجة التي اثارتها قوى الموالاة “14 آذار”، حيث انتقدت بشدة هذه الزيارة وخونت عون لقيامه بها فيما دافع عنها حزب الله الحليف الاساسي للعماد عون.
وكان من اعنف اشكال هذه المعارضة للزيارة ما جاء على لسان عضو اللقاء الديمقراطي النيابي مروان حمادة الذي قال ان “عون أخذ إلى سوريا كل كرامة اللبنانيين وسيعود بلا شيء”، وان “عون اتم صفقة مع المخابرات السورية قبل عودته من سوريا بعدما أتم صفقة مع الموساد الاسرائيلي قبل ذلك”، في حين وصفها المكتب السياسي لحزب الكتائب في بيان له بأنها تعني انعاشا للحلف السوري – الايراني من دون أي اعتبار للمنطلقات السياسية المبدئية أو الدينية، وان الزيارة لم تحقق أي مكاسب لبنانية، وان الزيارة لا تلزم أحدا، وان الخلاف بين سوريا ومعظم اللبنانيين مازال قائما، ولم تحصل أي مصالحة سورية – لبنانية سوى مع عون. لا بل ذهب حزب الكتائب إلى أبعد من ذلك في تنديده بالزيارة حينما حاول في بيانه أن يؤلب رئيس البلاد ميشال سليمان والبطريرك نصرالله صفير على ميشال عون لقيامه بهذه الزيارة وما تخللتها من اساءات مقصودة إليهما على حد تعبيره.
علما بأن العماد عون، والذي استمرت زيارته لدمشق خمسة أيام التقى بعد عودته إلى لبنان الرئيس سليمان وأطلعه على كل اهداف الزيارة والنتائج المتمخضة عنها في ظل الضجة المستمرة الواسعة النطاق التي مازالت تشنها قوى “14 آذار” عليها وعلى الاخص المسيحية. ثم دافع عن نفسه في مؤتمر صحفي بعد لقائه الرئيس سليمان وعن أهداف الزيارة ونتائجها وعن مشروعية مد جسور المصالحة والعلاقات مع سوريا، كشقيقة وكجارة، على مختلف المستويات الشعبية لا الرسمية فقط. ولعل مما زاد من اثارة حنق قوى “14 آذار” على الزيارة ليس طولها (5 أيام) فحسب، بل ما احاطت بها القيادة السورية من حفاوة مبالغ فيها وحيث اجتمع الرئيس السوري بشار الاسد بالعماد عون عدة مرات في مستهل الزيارة وفي ختامها، كما أحاطت القيادة والحكومة السوريتان عون بحفاوة بالغة ايضا في الاستقبال وكرم الضيافة والاقامة وفي برنامج الزيارة وهي حفاوة لا يحظى بها عادة الا رؤساء الدول، لا بل ان بعضهم ممن زاروا دمشق لم يحظ بمثلها. وجندت دمشق كل وسائلها الاعلامية من صحافة وإذاعة وتلفزيون لتغطيات اخبارية واسعة وبارزة لكل تلك الحفاوة ويوميات وفعاليات برنامج الزيارة على امتداد ايامها الخمسة.
وسواء وجدت تاكتيكات من الزيارة ومن توقيتها لدى أي من الطرفين، عون من جهة ودمشق من جهة أخرى، وبغض النظر أيضا عن اختلاف المرء أو اتفاقه مع سياسات ومواقف كلا الطرفين العدوين اللدودين سابقا الصديقين حاليا، فانه يبدو مستغربا ان تأتي الحملة الشعواء على زيارة عون لدمشق بعد فترة قصيرة من الزيارة الرسمية التي قام بها الرئيس اللبناني ميشال سليمان إلى سوريا باسم كل اللبنانيين، وما تمخضت عنه من نتائج مثمرة لترطيب اجواء العلاقات بين البلدين الشقيقين المتخاصمين، والتي جرى خلالها التأكيد على استمرار هذه العلاقات وما يربط بينهما من وشائج تاريخية يصعب تقطيعها، وحيث تم الاتفاق ايضا على تبادل التمثيل الدبلوماسي بين البلدين، وهو ما جرى التأكيد عليه أثناء زيارة وزير الخارجية اللبناني لدمشق لاحقا وهي خطوة تعد بمثابة أول اعتراف رسمي سوري واضح وصريح باستقلالية الدولة اللبنانية والتعامل معها من منطلق الندية المتكافئة كدولة مستقلة حرة كاملة الحقوق والسيادة وليس التعامل المضمر معها ككيان تاريخي موقت مصطنع فرضه الاستعمار الفرنسي سيتم الحاقه وضمه في الوقت والظرف التاريخي المناسب بالوطن الأم سوريا، وذلك كما ظلت تتوهم بذلك القيادات السورية المتعاقبة منذ نيل لبنان استقلاله في أوائل اربعينيات القرن الماضي.
وبهذا يعني موقف تكتل قوى “14 آذار” بمعنى من المعاني انه واقع في ازدواجية من الممارسة السياسية فما هو حلال على الدولة وقيادتها السياسية ممثلة في الرئاسة فهو محرم على قوى المعارضة كما تجلى ذلك في زيارة عون لدمشق، وهذا ما يذكرنا بالضبط بحملتها الشعواء قبل أشهر على زيارة الفنانة اللبنانية الكبيرة فيروز لسوريا حتى لو كانت ليس لغرض سياسي بل لمجرد اقامة حفلة غنائية ابهجت الشعب السوري الذي يستمتع بفنها.
ولئن كان مثل هذا السلوك من المواقف يمكن فهمه من قبل الدول الشمولية العربية أو قوى المعارضة فيها التي غالبا لا تتمتع بمشروعية العمل العلني فيها، فان ما لا يمكن فهمه ان يصدر عن قوى معارضة شرعية تعيش في ظل اعرق دولة ليبرالية ديمقراطية عربية منذ استقلالها في عام 1943، ويفترض بأنها قطعت شوطا من النضج في الممارسة السياسية والديمقراطية، فهل نجد مثل هذه الحملات على الفنانين وعلى السياسيين من قبل القوى السياسية المعارضة في الدول الديمقراطية الغربية لمجرد قيام حزب ما، أو قوة سياسية ما، بزيارة لدولة اجنبية هي في حالة خصام مع دولتها أو حتى مع أي قوة سياسية أخرى داخل الدولة الديمقراطية ذاتها؟!

صحيفة اخبار الخليج
14 ديسمبر 2008