المنشور

الاستيراد الفكري لدى زكريا إبراهيم (1)

اعتمد الباحثون العرب على بضاعة الغرب الفكرية في أغلب الأحيان، وظهر ذلك لدى الليبراليين الأوائل اعتماداً على الفلسفات الصوفية والحدسية وكان هذا يعبر عن نقص في التحليل الاجتماعي خاصة.
يعرض المفكر العربي زكريا إبراهيم سبب اختياره الفيلسوف الفرنسي برجسون ليكون مادة أحد كتب سلسلة (نوابغ الفكر الغربي)، ولكي يطل القارئ العربي على هذه الشخصية ليس فقط لمعرفة خلاصة وافية للفلسفة البرجسونية بل انه كان يستهدف أيضاً أن ينقل (إليه روحاً فلسفية عميقة خصبة مرنة)، (برجسون، زكريا إبراهيم، دار المعارف، سلسلة نوابغ الفكر الغربي 3، مصر).
يهمنا في هذه الفقرة أن نرى كيف تتراءى الفلسفة البرجسونية لدى أحد أعمدة الفلسفة العربية المعاصرة، وهو مفكر مشغول بعرض القضايا الفكرية بصفتها مشكلات، فيكتب عن مشكلة البنية ومشكلة الفلسفة مثلما يعرض نماذج من الفلاسفة الغربيين.
ولا شك أن اختيار هؤلاء الفلاسفة من دون غيرهم والترويج لهم، والدفاع عنهم، والقيام بنقل (روحهم) الفلسفية هي عملية فكرية معقدة مركبة، فنحن نجد برجسون الفيلسوف الفرنسي الذي ظهر في فرنسا بين 1859 – 1941، أي أن طفولته تتشكل مع الاحتلال الألماني ووفاته تصادف الاحتلال الألماني كذلك، يعبر عن منحى خاص لفكر الطبقة المتوسطة الفرنسية بعد فكرها المادي والثوري.
فالمؤلف زكريا إبراهيم ينكر منذ مقدمة الكتاب أن تكون الفلسفة البرجسونية، (فلسفة لا عقلية، لا حتمية، تنكر الوجود لحساب الصيرورة وتلغي العقل لحساب الحدس)، فيدافع عنها قائلاً :
(هي الفلسفة الإيجابية التي ساهمت بقسط وافر في تبديد الكثير من الأفكار السلبية مثل فكرة العدم، وفكرة الاضطراب، وفكرة القدرية المطلقة، وما إلى ذلك من الأفكار. فليست قيمة الفلسفة البرجسونية منحصرة في هذا الجانب السلبي، مهما كان من أهميته، بل لابد لنا دائماً من أن نتذكر أن برجسون قد أقام ميتافيزيقا إيجابية قوامها تقرير واقعة الحرية، وإثبات حقيقة الروح، وتفسير ظاهرة الخلق، والكشف عن مبدأ “الفعل” والمحبة في الوجود)، (السابق ص11).
إن الاهتمام ببرجسون في الفلسفة العربية كبير، وهذا يعود لكون المثاليين على الضفة العربية يقومون بتقوية ترساناتهم الفكرية في وسطنا العربي عبر ما تخضه الثقافة الغربية الحديثة، وهم اختاروا (برجسون) بشكل خاص وكبير، (يتيح ثبت المصادر الذي ذيله الدكتور زكريا إبراهيم بكتابه معرفة أن معظم كتب برجسون الرئيسية تمت ترجمتها إلى اللغة العربية وكذلك كتبت أبحاثٌ عديدة عنه).
لما يمثله من قيم فكرية متجذرة لديهم، أي أن مثاليتهم العربية الدينية العريقة وجدت في برجسون شخصية غربية حديثة توافقت مع عقليتهم فتقوت به.
يمثل زكريا إبراهيم هذا النموذج، فهو حين يعرض أن فلسفة برجسون لم تقتصر على السلب ورفض الأفكار المادية والعلمية المنتشرة، (وكأن الهجوم على الأفكار المادية والعلمية فضيلة بحد ذاته) بل كذلك قدمت أفكاراً إيجابية ولكنها كذلك في دائرة (الميتافيزيقيا الإيجابية) مما يعبر عن وجود ميتافيزيقيا مشتركة بين الضفة الفرنسية والضفة العربية، بل ان برجسون نفسه يؤكد ذلك بلغة قوية:
(إنني اعترف بأن كل جهدي قد انحصر في الميتافيزيقا، وفي الميتافيزيقا وحدها، ولكنني أوثر أن أحدد هذا الجهد بأنه تعمق للتجربة)، (المصدر السابق، ص 11).
لكن زكريا إبراهيم لا يعرضُ تجربةَ برجسون الفلسفية في إطار تاريخيتها، وعبر تحليلها النقدي، بل هو يعرضها تحليلياً في إطار التماهي معها، وبعدمِ كشفِ تناقضاتها وخبو سيرورتها.
فهو يعتقدُ أن فلسفةَ برجسون فلسفة عظيمة. (ذلك لأن كل فلسفة عظيمة إنما تتولد بادئ ذي بدء عن شعورٍ حادٍ بوجود “هوة” عميقة بين العقل والواقع، مما يثير لديها الشعور بأنه لابد لها من “طفرة” كبيرة حتى تتمكن من عبور تلك الهوة)، (ص 13). لكن الأستاذ زكريا لا يقول لنا أي هوة تلك؟ وإلى أين تتجه الطفرة الكبيرة؟!
ويعرض زكريا إبراهيم فلسفة برجسون في إطار ثقافي مباشر، فهو يتتبع المؤثرات الفكرية التي لعبت دوراً في تشكيل برجسون بشكلٍ محدود، وكأنها أطياف صغيرة تحيط بلغته الفلسفية المنبثقة المتصاعدة، فتبدو فلسفاتُ القرن التاسع عشر الأوروبية محصورةً في فلسفة أسبنسر، التي تبناها وأوغل في منهجها المادي الميكانيكي، الذي يقول عنه الباحث إنه استفاد منه مع ذلك في تتبع مسألةِ التجربة، وهذا يشير بخلاف رؤية الباحث إلى أن انتقال برجسون من المادية الآلية إلى المثالية الصوفية أمر يحتاج إلى تحليلٍ معمقٍ بسبب هذه القفزة الهائلة من أقصى الفكر إلى أقصاه!
وكل ما يقوله الباحثُ عن هذا المناخ إن سيادةَ الأفكار المادية والعلمية المتطرفة في القرن التاسع عشر وهي فلسفات في رأيه محدودة، قد جعلت ظهور فلسفة برجسون ضرورة لما في تلك الفلسفات من ضيقِ أفقٍ وجمود!

صحيفة اخبار الخليج
14 ديسمبر 2008