المنشور

الحاج مدبولي‮: ‬صانع المثقفين

لا‮ ‬يمكن تصور ميدان طلعت حرب في‮ ‬قلب القاهرة من دون المكتبة الشهيرة التي‮ ‬تحمل اسمه،‮ ‬ولا‮ ‬يمكن لزائرٍ‮ ‬لـ‮ “‬وسط البلد‮”‬يملك درجةً‮ ‬من الفضول تجاه الكتب أن‮ ‬يغفل عن‮ “‬إطلالة‮”‬،‮ ‬حتى لو كانت سريعة،‮ ‬على تلك المكتبة العريقة‮.‬ بجلبابه الشعبي‮ ‬البسيط وسترته التقليدية،‮ ‬كان‮ ‬يبدو رجلاً‮ ‬عادياً،‮ ‬وربما أمياً‮ ‬أيضاً،‮ ‬قذفته الأقاليم البعيدة إلى القاهرة،‮ ‬كما تقذف بمئات الآلاف من بسطائها،‮ ‬كي‮ ‬يتدبروا أمر معيشتهم في‮ ‬العاصمة‮. ‬ لم‮ ‬يكن الحاج مدبولي‮ ‬مُثقفاً،‮ ‬فهو لم‮ ‬ينل إلا القليل من التعليم،‮ ‬بل لعله لم‮ ‬ينل منه شيئاً‮ ‬على الإطلاق،‮ ‬لكن‮ ‬يُمكن أن نصفه بأنه صانع المثقفين،‮ ‬بمقدار ما كان العديد من هؤلاء المثقفين نتاج الكتب التي‮ ‬كان‮ ‬يطبعها ويُوزعها،‮ ‬فهو لم‮ ‬يكن مجرد ناشر وإنما كان دليل المثقفين إلى الكتب التي‮ ‬تُكوّن معارفهم وتصقل مواهبهم‮.‬ الروائي‮ ‬الكبير بهاء طاهر قال عنه‮: “‬بالرغم من ثقافته المحدودة،‮ ‬فإن وعيه كان‮ ‬يحسده عليه الحاصلون على الدكتوراه‮”.‬ ‮”‬حرفة‮” ‬الكتب التي‮ ‬أتقنها جعلته خبيراً‮ ‬في‮ ‬قراءة المزاج الثقافي‮ ‬السائد،‮ ‬كان‮ ‬يعرف قراءه من سيمائهم‮. ‬يقرأ في‮ ‬عيونهم هواهم الفكري‮ ‬والسياسي،‮ ‬فيمسك بأيديهم نحو‮ ‬غرفٍ‮ ‬خلفية هي‮ ‬مخابئ الكتب المحظورة التي‮ ‬يحرص على ألا تكون في‮ ‬فاترينة العرض في‮ ‬المكتبة،‮ ‬ولا في‮ ‬رفوفها الظاهرة‮.‬ هناك كان‮ ‬يدهشهم بمعرفته بما تحتويه تلك الكتب،‮ ‬وعلى طريقة همس المحكوم وراء ظهر الحاكم،‮ ‬كما‮ ‬يقول جيمس سكوت،‮ ‬كان بوسع الحاج مدبولي‮ ‬أن‮ ‬يقدم فكرةً‮ ‬وافيةً‮ ‬عما‮ ‬يتوقع أن تكون الكتب التي‮ ‬يقترحها عليهم تحتويه‮.‬ يعتبر‮ “‬لحاج‮” ‬نفسه ناصرياً،‮ ‬بل جندياً‮ ‬من جنود عبدالناصر،‮ ‬ويجاهر بعدم محبته للرئيس أنور السادات‮. ‬لذا فإن داره أصبحت في‮ ‬سبعينات القرن الماضي‮ ‬مركزاً‮ ‬لمعارضة السادات،‮ ‬فوزع ونشر أشعار أحمد فؤاد نجم وكل الكتب التي‮ ‬كتبها المثقفون المصريون الذين هجروا مصر،‮ ‬ونتيجة ذلك رفعت عليه دعاوى في‮ ‬المحاكم،‮ ‬لكن ذلك لم‮ ‬يفت من عزيمته ولم‮ ‬يُغير هواه‮.‬ ورغم أن مكتبته عرفت بأنها دار نشر الكتب التقدمية وترجمات الفلسفات الغربية،‮ ‬وعنها صدرت أعمال كبار الكتاب والروائيين المصريين المعروفين بأمزجتهم اليسارية،‮ ‬لكنه هو نفسه أعدم،‮ ‬مؤخراً،‮ ‬أحدث طبعتين من كتابين لنوال السعداوي‮ ‬ربما تحت تأثير المزاج المتشدد الذي‮ ‬أخذ‮ ‬يطبع الحياة العامة والثقافية على حد سواء في‮ ‬السنوات الأخيرة‮.‬ وفي‮ ‬ظل حديث عن تراجع جودة النشر،‮ ‬لا في‮ ‬مصر وحدها وإنما في‮ ‬العالم العربي،‮ ‬وتوقف أو تدهور سلاسل الكتب والترجمات القيمة التي‮ ‬ربـت أجيالاً‮ ‬من المثقفين،‮ ‬بسبب انصياع الناشرين،‮ ‬بما فيهم وزارات الثقافة لمتطلبات السوق التي‮ ‬تقتضي‮ ‬الخفة،‮ ‬فان رحيل مدبولي‮ ‬يعني‮ ‬غياب عَمود من أعمدة النشر الثقافي‮ ‬الجاد في‮ ‬مصر والعالم العربي،‮ ‬حافظ على صدقيته حتى النهاية‮.‬
 
صحيفة الايام
11 ديسمبر 2008