المنشور

العرب ومعاهدة حظر القنابل العنقودية

في خضم القضايا المحلية والاقليمية والدولية المتشعبة التي بدا العرب جميعاً مشغولين أو غارقين فيها من الرأس حتى اخمص القدمين، غاب عن اهتمامهم، وعلى الأخص اللبنانيون منهم واحدة من أكثر القضايا المأساوية التي مازالت بمثابة سيف حقيقي مسلط يهدد آلاف العرب واللبنانيين، وعلى الأخص اطرافهم الجسدية السفلى، من جراء آلاف القنابل العنقودية الاسرائيلية التي لم تنفجر والتي مازال يروح ضحيتها بين الحين والآخر عدد غير قليل من المواطنين، ولاسيما في الجنوب اللبناني. ويتمثل غياب العرب، واللبنانيين بوجه خاص باعتبارهم أكثر المعنيين بهذه المأساة عن المؤتمر الدولي الذي عقد مؤخراً في العاصمة النرويجية اوسلو وخصص للتوقيع على معاهدة دولية لحظر القنابل العنقودية. ولا نقصد بهذا الغياب هنا بالطبع غياب ممثلين من الدول العربية عن حضور المؤتمر فلربما حضر منهم من حضر، بل غياب التحضير المسبق والنشاط الملموس للمشاركة بفعالية في المؤتمر وابراز هذه المشاركة اعلامياً على أوسع نطاق عربيا ودوليا لتوعية الناس ومؤسسات المجتمع المدني بالمخاطر الجمة من هذه القنابل، وتفعيل شبكة من الاتصالات مع مختلف الدول والمنظمات الدولية، ولاسيما الكبرى او الفاعلة على الساحة الدولية بغية تأمين اكبر عدد من الدول المشاركة في المؤتمر والتوقيع على الاتفاقية، ناهيك عن التنديد، ولو بأخف لهجة بالدول الضالعة في صنع هذه القنابل الاجرامية الوحشية، وهي كل من الولايات المتحدة واسرائيل وباكستان والهند وروسيا والصين والتي غابت جميعها عن المشاركة في المؤتمر، ولم تبال ولو بأدنى مستوى من المشاركة او ارسال مندوب عن كل منها بصفة «مراقب« مستمع لمداولات المؤتمر ليعقب فقط على ما يود ان يبرره من ذرائع او تحفظات على الاتفاقية. هذا على الرغم مما ينطوي عليه المؤتمر والاتفاقية الدولية التي تمخضت عنه من أهمية فائقة لتعزيز السلم العالمي، وتجنيب البشرية المزيد من الويلات حتى في زمن السلم من شرور تلك القنابل المباغته المدفونة في باطن الارض او المختبئة على سطحها او بالقرب منه. لقد وقعت على اتفاقية حظر القنابل العنقودية في مؤتمر اوسلو الاخير مائة دولة، في حين كان يمكن لو كانت تحضيرات العرب واللبنانيين ومنظمات وقوى السلم في العالم اكثر فاعلية مسبقاً، لوصل عدد الموقعين على الاتفاقية أكبر بكثير من 100 دولة فقط، ولاسيما انه سبق ان اجريت مفاوضات مكثفة في مايو الماضي في دبلن تمهيدا لتوقيع الاتفاقية وتعزيز قوة نصوصها الالزامية ليكون حظر القنابل العنقودية حظراً حازماً، بما في ذلك انتاجها والتجارة بها، ناهيك عن استخدامها في الحروب. وكان من ابرز المتحدثين في المؤتمر وزير خارجية لاوس ثو نجلون سيسلوليث الذي وصف المعاهدة بأنها تعد معلما تاريخيا، مبديا تفاؤله بأنها «ستحمي الابرياء من التعرض لويلات القنابل العنقودية«. واشار كيف ان ثلث القنابل الملقاة على بلاده ابان حرب الهند الصينية لم تنفجر، وان 300 ضحية يسقطون سنويا من جراء هذه القنابل، وهو ما يشكل نصف ضحايا القنابل العنقودية على مستوى العالم. ورغم التفاؤل الذي ابداه نائب وزير الخارجية اللاوسي بأن تتمكن معاهدة حظر القنابل العنقودية من حماية الابرياء المدنيين الذين تباغتهم هذه القنابل بانفجارها على حين غرة من دون مقدمات، فإن الكثير من المراقبين يبدون شكوكاً في قدرة المعاهدة على الزام الدول التي تنتجها أو تتاجر بها أو التي تستخدمها في حروبها بحظر انتاجها والمتاجرة فيها او استخدامها، ولاسيما في ظل غياب كل او معظم هذه الدول عن المؤتمر بذرائع واهية مفضوحة. وهذا ما اعترف به عن حق وزير الخارجية الياباني هيروفومي تاكوسوني في المؤتمر والذي اكد ان فعالية المعاهدة تظل محدودة مع غياب ابرز الدول المنتجة أو المستخدمة للقنابل العنقودية عن المؤتمر. وفي الوقت الذي اكد فيه الوزير الياباني ايضاً أن بلاده تبرعت منذ عام 1988م بـ300 مليون دولار لمساعدة الدول التي تهددها القنابل العنقودية والألغام فإننا مازلنا لم نسمع بعد كم هي تبرعات الدول العربية في هذه القضية الانسانية السياسية التي يذهب ضحاياها عشرات اللبنانيين سنوياً، دع عنك الالغام المتبقية الاقدم الموروثة عن الاحتلال الاسرائيلي في سيناء وأراض مصرية اخرى على الحدود مع ليبيا وداخل ليبيا نفسها والموروثة بدورها عن الحرب العالمية الثانية، فضلاً عن الاراضي السورية وغيرها من الاراضي العربية التي خلفها الاحتلال الاسرائيلي. وليس بالضرورة ان تكون مساعدات الدول العربية المقتدرة فنية عسكرية، بل يكفي ان تتبرع بالتعاقد مع دول ذات صناعة عسكرية وتكنلوجية متقدمة لمساعدة الدول العربية المتضررة في هذه المهمة لازالة الالغام. والأنكى من ذلك فإن لبنان الذي مازال يدفع اثمانا باهظة لحروب اسرائيل العدوانية عليه مازال يعاني ويترك وحده عربياً في مطالبته المشروعة بالزام اسرائيل بتسليمه خريطة لكل قنابلها العنقودية التي اسقطتها او دفنتها في الاراضي اللبنانية. مهما يكن فإن هذه المعاهدة التي وقعت مؤخراً في اوسلو من شأنها على الاقل تسليط الاضواء بقوة على مخاطر وشرور هذه القنابل الجهنمية التي تعد بمثابة قنابل صامتة موقوتة تصطاد فرائسها المدنيين الابرياء على حين غرة. لكن ما لم تبادر فوراً كل الدول العربية ودول العالم المتضررة من هذه القنابل، أو المتعاطفة مع ضحاياها، فضلاً عن كل قوى السلم والخير بتكثيف فعالياتها ونضالاتها من اجل حشد اكبر تكتل عالمي ضاغط نحو زيادة عدد الموقعين على الاتفاقية، وعلى رأسهم الدول المنتجة والمستخدمة لهذه القنابل الشريرة الفتاكة، والضغط على هذه الدول بكل الوسائل والتشهير بمواقفها الانانية اللاانسانية من المعاهدة، فإن نصوص هذه الاتفاقية ستبقى مجرد حبر على ورق أقرب الى المرجع القانوني أو الوثيقة التي توثق ضمير العالم الحي الذي تؤرقه هذه القضية لا أكثر.. تماماً كاعلان حقوق الانسان العالمي.

صحيفة اخبار الخليج
7 ديسمبر 2008