المنشور

أمـل قليل ألـم كثيـر


في القرن التاسع عشر أرسل محمد علي باشا الشيخ رفاعة الطهطاوي في بعثة علمية إلى فرنسا للتعرف إلى مكامن القوة في الحضارة الغربية وسبل النهل منها والإفادة من نجاحاتها وايجابياتها، وسجل الرجل خلاصاته في ما بعد في كتابٍ مهم.
 
الكتاب هو ” تخليص الإبريز في تلخيص باريز” الذي يُعد أكثر بكثير من مجرد كتاب عن أدب الرحلة، حتى لو اندرج في التصنيف الاجناسي في سياق كهذا. انه خطاب ثقافي  فكري يحلل إرهاصات فكر النهضة وتعثراته وارتباكاته أيضا.
 
ومن أسف أن الدعوة الجريئة التي أطلقها الطهطاوي في حينه للانفتاح على الآخر والتعلم منه والأخذ من تجربته، تُجابه اليوم بتصدٍ مهووس بفكرة الانغلاق على الذات والتحصن في قوقعة الأنا، في خلط غريب بين بناء الهوية من حيث هي شرط حضاري وثقافي وبين “أوهام” الهوية التي إذا ما استمرت في استشرائها، فإنها تقذف بنا بعيدا عن استحقاقات العصر.
 
رد تحديات الهيمنة على أنواعها، وخاصة الهيمنة الثقافية، لا يكون بالانعزال عن العصر، بل بأن نزج بأنفسنا في أتونه سبيلا للرد من داخل شروط هذا العصر وبسياقاته التي لا مفر منها.
 
في حوار أجراه المرحوم غالي شكري مع الدكتور طه حسين قبل وفاته بقليل، قال عميد الأدب العربي: ” يُخيل إليّ أن ما كافحنا من أجله مازال يحتاج إلى كفاحكم وكفاح الأجيال المقبلة بعدكم. إنني في آخر أيامي ألملم أوراقي وسأمضي قريباً..أودعكم بكثير من الألم وقليل من الأمل”.
 
ما الذي جعل رجلاً مثل طه حسين، كان داعية مثابراً للنهضة، يقول هذا القول، وهو على أهبة مفارقة الحياة؟ ما الذي جعله يتحدث عن ” قليل من الأمل” و” كثير من الألم “، وأن يعهد بمهمة الكفاح من أجل ما كافح في سبيله إلى الجيل الذي يليه والأجيال القادمة أيضا، وهل يتضمن ذلك اعترافا بأن هذا المشروع نفسه قد مني برمته بالإخفاق والانكسار وحتى الهزيمة.
 
ومن يعقد مقارنة بين الفترة التي قال فيها طه حسين هذا الكلام وبين الحال اليوم سيجد أن الأمور ساعتها كانت أفضل بكثير مما هي عليه اليوم، وأن بلاء الجيل السابق في سبيل النهضة والتنوير كان أفضل بما لا يقاس من أدائنا الراهن.