المنشور

برلمانيون فاسدون‮ ..!‬

ليس هذا أول كلام عن فساد البرلمانيين ، وحتماً لن يكون الأخير، فقد جرت أحاديث عن برلمانيين حملوا ومنهم من لازال يحمل لواء مكافحة الفساد وهم أول الضالعين في الفساد، وقيل بأن أعظم وأخطر فساد هو الفساد الذي ينال من نواب يفترض أنهم أول المعنيين بالمراقبة والمساءلة ومناهضة كل مظاهر الانحراف والفساد، وفي شأن هذا الموضوع هناك أكثر من شق، وأكثر من عنوان، وكل عنوان أخطر من الآخر .
 ما يهمنا في هذا الكلام ، أنه صادر هذه المرة من برلمانيين  وهنا تكمن أهميته ودلالته ربما كانوا مستشعرين لدورهم في مكافحة غول الفساد، اجتمعوا في إطار مؤتمر عالمي هو الثالث للبرلمانيين ضد الفساد استضافته الكويت مؤخراً، وأهم ما في هذا المؤتمر ليس التوصيات التي خرج بها لأنها تكاد تتكرر في كل مؤتمر وينتهي مفعولها بانتهائه، وإنما تلك المناقشات التي دارت في ورشة عمل “اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد”.. ففي هذه الورشة وجهت انتقادات لبعض البرلمانيين الذين يكونون أحياناً أول المتهمين بالفساد، وفي لمحة دالة منه رتب ممثل المنظمة العربية لمكافحة الفساد القضية بداية من شعب ينتخب نواباً، ونواب يملكون مراقبة حكومة، وحكومة تؤدي إلى فساد، ويخلص إلى أن النواب هم المسؤولون عن الفساد إذا تركوا السلطة التنفيذية تفسد وتفعل ما تريد وقتما تريد، منتقداً النواب الذين دأبوا على استخدام وإقحام عبارات وشعارات كبيرة لكنها تبقى شعارات لا تحاكي الحكومات في منهجها المناقض لتلك الشعارات، الأهم من ذلك تلك الصيحة أو الدعوة التي أطلقها أكثر من نائب المطالبة بالتصدي للفساد في المؤسسات التشريعية، والمقرونة بالتأكيد بأنه على هذه السلطة أن تبدأ بنفسها بالإصلاح والنزاهة والتخلي عن الفساد قبل أن تطالب الآخرين بذلك .
  القضية برمتها لابد أن تكون موضع انتباه واعتبار كافيين من الجميع، من الحكومات ، من المجالس النيابية، من مؤسسات المجتمع المدني والهيئات والمنظمات الإقليمية والدولية ذات العلاقة، وهي قضية لا يستطيع المرء أن يخفى شعوره بالأسى العميق إزاء هذه النوعية من البرلمانيين الفاسدين، وهو أسى مركب ، مرة لأن هذه النوعية من البرلمانيين يفترض أن تمثل الشعب بكل ما في هذا التمثيل من عزم وبأس ومسؤولية ونزاهة وواجبات واحترام والتزام ورقابة وتشريع ضد الفساد، ومرة ثانية لأن الشعب أساء اختيار من يمثله ، ومرة ثالثة لأن أعمال هؤلاء البرلمانيين تنسب إلى الديمقراطية ، رغم أنها أعمال وممارسات تعبر عن خلل عميق يعتري مسار وأساس العمل البرلماني والديمقراطي.
 لم يقف الأمر عند ذلك الحد من المناقشات عن فساد البرلمانيين ، بل امتد إلى انتقادات واتهامات بتستر البرلمانيين على فساد الحكومات، وتشريعهم قوانين تخدم مصالح بعض أصحاب النفوذ .. !!، والأخطر من ذلك ما جاء على ذمة مؤسسة أداء برلماني الكويتية “منار” التي كشفت بأن الفساد في المؤسسات التشريعية في الوطن العربي يتجاوز 75 ، وأن صور هذا الفساد تتعدد بدءاً بإساءة استغلال الحصانة البرلمانية والابتزاز ، مروراً بالإثراء غير المشروع، وعرقلة سير العدالة وتغيب الآليات التي تمنع تضارب المصالح وحتى “طأفنة” قضايا الوطن وجعل هذه الطأفنة ممراً حراً للفساد .. !!  لعل آخر ما يخطر على بال المرء أن يكون حجم البرلمانيين الفاسدين بتلك النسبة ، ولأن أي جهة يفترض أن تكون معنية، ولا حتى القائمون على مؤتمر البرلمانيين ضد الفساد ولا أي برلماني مشارك أو غير مشارك لم يبادر التكذيب أو التصحيح أو التعليق بأي شكل من الأشكال على تلك المعلومة التي أوردتها “منار”، وإنما التزم الجميع الصمت المطبق ، وكأن كل طرف لم يقرأ ولم يسمع، فإن ذلك لاشك أنه أمر باعث على قدر كبير من القلق والجزع، لذا لم يكن بمستغرب أن يتنادى بعض الكتاب إلى المطالبة بتحرك شعبي واسع النطاق ضد فساد النواب داعين إلى إنشاء مؤسسات تختص بمراقبة أداء النواب وهي دعوة لاشك أنها في محلها ونتمنى أن يلقى صداها في البحرين ..!!..
«مؤتمر برلمانيون عرب» ضد الفساد حذر من الآثار السلبية التي تفرزها المبالغة في مفهوم الحصانة البرلمانية لتصبح في النهاية وعاء لبعض الممارسات البرلمانية السلبية والفاسدة وهو لاشك يؤثر سلباً على مصداقية جهود الإصلاح ومحاربة الفساد، والمؤتمر لم يكتف بذلك بل طالب بتشكيل لجان تعني بنزاهة العمل البرلماني لضمان منع استغلال عضوية المجلس النيابي لتحقيق أغراض خاصة من خلال التشريع أو الرقابة، أو المساءلة والالتزام بالأدوات التي تكفل تطوير الأنظمة الأخلاقية للنواب، وأحسب أن هذه المسألة تحديداً التي تتوافق مع تلك الدعوة، لم تأخذ حقها من الاهتمام في الدوائر والأوساط المعنية، رغم أننا نتلقى أصداء فساد وانحراف وعجز وفشل وقصور اداء كثير من النواب كل صباح .
 إننا في حقيقة الأمر لا نستطيع أن نكتم قلقاً ودهشة إزاء هذا الذي قرأناه وتابعناه من صور وحكايات انحراف وفساد برلمانيين ، والتي نستطيع أن نضيف إليها مما يمكن اعتباره بأنه مستوحى من واقعنا، ومنها في حدود ما نعلم والله أعلم تلك التكتيكات المقصودة إلى شغل الساحة بقضايا صغيرة مفتعلة ومفبركة أو محرفة لغايات تلو حقائق معينة أو تجمل صورة رديئة، علاوة على استخدام الأدوات الدستورية، السؤال أو الاستجواب من أجل مساومة أو ابتزاز أو مصلحة تعود بالنفع الخاص على طائفة، أو مذهب أو قبيلة، أو فئة أو انتماء سياسي وليس لترسيخ الدور الرقابي والتشريعي في سبيل مصلحة عامة ، كما لا ننسى تلك الصورة من الفساد المتمثلة في محاولة فرض تيار هذا النائب أو ذاك للتحكم في مفاصل بعض الوزارات والمؤسسات الرسمية، والهيمنة على بعض الإدارات العامة، كما أن وصول بعض النواب إلى كرسي البرلمان عن طريق شراء الذمم أو عن طريق إتباع أساليب غير نزيهة ومخالفة للقانون، وارجعوا بذاكرتكم إلى أيام الانتخابات ولا يعني ذلك التمترس وراء الحصانة النيابية في ارتكاب التجاوزات واختراق القوانين، وحتى تسرب بعض أعضاء البرلمان ومقاطعة واجباتهم الدستورية، وتعطيل عمل المجلس الرقابي والتشريعي أو تسليط الضوء على انحرافات بعينها، وغض الطرف عن انحرافات أخرى مماثلة أو اشد جسامة هي من صور الفساد البرلماني المحملة بتفصيلات كثيرة لا مجال للخوض فيها الآن على الأقل.
  الصور كثيرة.. لا تعد ولا تحصى .. لذا لن يكون هذا الكلام آخر حديث عن فساد البرلمانيين، وإن كان هناك من يرى بأن معظم المجالس النيابية العربية الحالية لا يمكن أن يعّول عليها في محاربة الفساد، محاربة حقيقية وليست محاربة صورية، ويرى أن معظم أعضاء هذه المجالس هم صناعة حكومية.. فإننا لن نغرق في الخيال، لأن هذا الواقع الذي فيه المزيد من الطموحات والخيبات والشكوك والصدمات نعلم أن محصلته لن تكون ناصعة وسيكون من الخطأ الفادح كيفما اتجه تفكيرنا والى أي زاوية اتجه تحليلنا أن نظن بأن الفاسدين يحاربون الفساد، والخطأ الأفدح حينما يظهر لنا هؤلاء بمظهر المنزهين عن الفساد..!!. 
  
الأيام 5 ديسمبر 2008