المنشور

إصلاحات أم تعميقٌ للأزمات؟!

قامت الإصلاحاتُ السياسية الراهنة في بعض دول العالم العربي على أسسٍ خاطئة، فهي لم ترتكز على أسسِ الحداثة، فاعتمدت نفس السياسة المذهبية والاثنية والعرقية والإقليمية، وكان قصدها الحفاظ على دولها ذات الحكم المركزي من التفتت والانشقاق، ولكنها عبر هذه الأسس نفسها، قامت بتمزيق دولها!
فهم أرادوا دولاً موحدة متماسكة لكنهم أجروا الانتخابات بهيمنة الأحزاب الدينية والعرقية والمناطقية!
وهم أرادوا إسلاماً قوياً ولكن على الأرض تمزق المسلمون شيعاً وأحزاباً!
 

كانت الأسسُ الخاطئة هي بسبب محدودية فهمهم للإسلام والحداثة، فهم مسلمون محافظون عاشوا على قشور الفهم الديني السائد، وهم حداثيون ولكنهم كرسوا تبعية للغرب الشمولي وليس للغرب الديمقراطي.
إن الحكام والمشرعين السياسيين أرادوا أن يجاروا (الموضة) السائدة للديمقراطية، فكانت تلك القشور المنتزعة من ظروفها ومناخها وعوالمها تحقيقاً لقوة الأنظمة وبقائها في عاصفة الديمقراطية الغربية.
لم يفهموا الجوهرَ الاجتماعي الذي توج به الإسلامُ نضالَهُ في القرآن، ولا بما أضاف به السلفُ في حكم الخلفاء الراشدين، ومن تبعهم من الأئمة بنضال ديمقراطي إلى يوم الدين، بل اعتبروا السائد من الفرق التقليدية الراهنة بأنها هي الإسلام، وهي ممزقة المسلمين، ومفككة الأوطان.
وكانت توجيهاتُ البيت الأبيض في عهد بوش بأن أقيموا الديمقراطية على ما أنتم عليه من استبدادين حكومي ومذهبي.
وتلك توجيهاتٌ ليست من عمق الديمقراطية الغربية كذلك ولكنها مطلوبة لتسويغ النفط والأموال العربية وإضفاء مظاهر من الديمقراطية الشكلية.
وفي خضم تطبيق الإصلاحات زادت المشكلات وعم الخراب والتناحر وتمزقت البلدان التي كانت متوحدة، وبدأت مظاهر الحروب الأهلية وغرقَ فيها البعضُ فعلاً.
حتى كفرتْ الأغلبياتُ بـ (الديمقراطية)!
لكن الديمقراطية لا تـُوضع على أسس مثل هذه الأسس التي تعكزت عليها في العالم العربي.
فهي تستند إلى: (منع تشكيل الأحزاب الدينية والطائفية والمناطقية والعنصرية).
هذا هو المبدأ الأول والمحوري، فكيف تجري انتخابات نتائجها معروفة سلفاً، وهي تفكيك أي بلد إلى سلطاته العشائرية والطائفية والعنصرية؟!
كيف تمزقُ بلدَك بيدك؟
إن الديمقراطية نظامٌ عميقٌ عريقٌ يحتاجُ إلى تطور كبير لدى الشعب في حياته المعيشية بدرجة أساسية فالشعب الجائع لا يصنع ديمقراطية، والشعب المُطارد لا يصنع ديمقراطية والشعب العاطل يكون وبالاً على الديمقراطية.
أي أنه لا يكون شعباً طائفياً جاهلاً، غارقاً في العنصرية والتخلف، فأي خياراتٍ سياسية يمكن أن ينتجها شعبٌ كهذا؟
لكن الديمقراطية في العالم العربي كانت مناورات حكومية ومناطقية وطائفية، وتعني تقاسم الحصص على صعيد الحكم وعلى صعيد المناطق وعلى صعيد الطوائف والعناصر!
أي كانت برنامجاً دقيقاً للحروب الأهلية!
وفي حين كانت دولُ الاستبداد باسم المذهب وباسم القومية وهي دول الجماعات الكبرى المتحدثة بالإسلام والعروبة، تشتغلُ للاستفادة من المياه العكرة التي اثارتها الديمقراطية الأمريكية.
لابد من تطبيق المادة الأولى في الديمقراطية وهي(يُمنع منعاً باتاً تشكيل الأحزاب الدينية والمذهبية والعنصرية والاثنية الخ).
يمنع منعاً باتاً المتاجرة بالإسلام ورموزه في قضايا التسلق الحزبي والمتاجرة بلحوم الفقراء في السياسة.
بطبيعة الحال تحتاج هذه الإصلاحات المبنية على العلمانية والديمقراطية والعقلانية إلى فترة إصلاح اقتصادي حقيقي وتطوير ظروف الأغلبية من العاملين، والأهم على حكومة لا يتطرق لها الفساد، وأين يمكن أن نجد ذلك؟!
هذه هي الحلقة المفرغة بين الواقع والبرنامج الإصلاحي الحقيقي.
إن ظهور شرفاء سياسيين غير ملوثين غير مرتشين غير فاسدين هو بؤرة المسألة. وقد نجدهم في نفس الأحزاب الدينية والأحزاب العلمانية والحكومات كأفراد وعناصر منعزلة.
وكل هؤلاء محاط بقوى كثيرة من الفاسدين والمستغلين، يكرهون التغيير.
وبهذا فإن الإصلاحَ السياسي العميق لابد أن يُوجد منعاً لهذا الانزلاق المستمر في مستنقع الطائفية والعنصرية وتفكك أي بلد إلى فسيفساء صغيرة.
سوف تجبرُ هذه الفوضى والتمزقات القوى العسكرية في الجيوش على التدخل، وسوف يقوم الغربُ مرة أخرى بالتدخلات الضرورية التي يعجز عنها أهلُ الشرق، سواء أكان ذلك من انقلابيين أم من حكومات تصل حد اليأس من الجماعات الدينية وتلاعبها، أو من الحكومات وفسادها وعجزها، وتأتي بهذا الشكل أو ذاك حكوماتٌ عربية عسكرية علمانية، تقومُ بحل هذه الجماعات الدينية والعنصرية والطائفية بالقوة الجبرية.
إذا لم تتطور الجماعاتُ الدينية من داخلها وتقبل بالحداثة.
إذا عجزت الحكوماتُ العربية عن ضبط أوضاعها ولم تستطع منع الفوضى داخلها ونقلتها للجيران.
إذا استمرت الشعوب في دعم هذه الجماعات الاستبدادية والفوضوية والارهابية.
ليس هذا حكمي بل هو قراءة لاحتمالات الغد الصعبة.
وقد قرأ بعضُ رجال الدين الحكماء هذه الأحوال من المتاجرة بالدين ومن العجز عن الإصلاح لدى الحكومات، معاً، فلم يورطوا الدينَ في تدخلاتٍ سياسيةٍ محكوم عليها بالفشل، بل جعلوا رجال السياسة هم الذين يتحكمون ويتطورون ويكونون مسئولين عما هو عابر وفاشل أو ناجح، وبقوا في المكانة العليا يتركون الشعوب تقرر، ولا يفرضون عليها أحكاماً سياسية وأنظمة ويدعونها للثورات كل يوم! بل هم يطرحون مبادئ عامة من جوهر الإسلام يكون للقوى السياسية فيه اختياراتها واستقلالها. وهذه عبقرية من بعض رجال الدين المسلمين وغيرهم استغرق قروناً ليبلغها.
ويبقى لديهم التربية الفقهية والروحية والأخلاقية وهي الباقية وما عداها مؤقت ومتغير كثيراً.
فكم تلاعب السياسيون بالناس وبالمبادئ!
ولابد من رأي عام كذلك يشكمهم ويراقبهم فعليهم ألا يتاجروا بالدين وبالشعوب.

أخبار الخليج 30 نوفمبر 2008