المنشور

« يا مغـرّب… خـرّب »!

عندما نعود إلى ما حدث في جلسة مجلس الأمة يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من انسحاب حكومي غير مفهوم وغير مبرر، وما تبعه من عقد مجلس الوزراء اجتماعاً استثنائياً أصدر عقبه بياناً استفزازياً شديد اللهجة ضد الممارسة البرلمانية ككل وليس فقط ضد الاستجواب الموجّه إلى رئيس مجلس الوزراء مرفقاً بإعلانه أنّه «قرر أن يضع استقالة الحكومة تحت تصرف حضرة صاحب السمو الأمير حفظه اللّه ورعاه لاتخاذ ما يراه سموه بحكمته المعهودة محققاً لخير مصلحة الوطن والمواطنين»، فإنّه من الصعب جداً بعد هذا كله تصوّر إمكانية أن تعود الحكومة الحالية إلى مقاعدها في مجلس الأمة إلى ما كانت عليه قبل انسحابها، وقبل بيانها الاستفزازي، وقبل تقديمها استقالتها وكأنّ شيئاً لم يكن، لتواصل محاولتها البائسة، التي نقضتها بنفسها لطلب تأجيل الاستجواب سنة أو أكثر!
الحكومة صباح يوم الثلاثاء الماضي تصرفت تماماً وفق المثل الشعبي السائد «يا مغرّب… خرّب»، وهي الآن ببساطة تريد أن ترمم ما خرّبته ليس لأنّ أركانها أدركوا مساوئ قرارهم المتعجّل بالانسحاب وسلبيات بيانهم الاستفزازي، بل لأنهم اكتشفوا مخاطر «تغريبة الاستقالة» التي لم تأت نتائجها موافقة لهواهم بحلّ مجلس الأمة، بل قد يدفعون ثمنها!
ولكن العودة إلى ما كانت عليه الأمور ليست سهلة ولا هي متيسرة… فقرار الانسحاب بالإضافة إلى ما مثّله من تصعيد مقصود به حلّ مجلس الأمة، فإنّه أحرج الوزراء ممَنْ كانت غالبيتهم الساحقة آخر مَنْ يعلم، كما أحرج النواب المؤيدين للتأجيل ممَنْ كانوا جاهزين للإقدام على تسجيل سابقة تأجيل الاستجواب إلى أبعد مدى ممكن تجنباً لاندفاع الأمور نحو الحلّ غير المرغوب فيه!
أما البيان الصادر عن الاجتماع الاستثنائي لمجلس الوزراء فلنقرأ منه هذه الفقرة المقتطفة من نصّه الرسمي، الذي نشرته وكالة الأنباء الكويتية «كونا» ليتضح لنا بالملموس ما يتضمنه من لهجة استفزازية تصعيدية غير مسبوقة حكومياً موجّهة ضد مجلس الأمة ككل، وضد الممارسات البرلمانية، وليس فقط ضد النواب المستجوبين الثلاثة، وهي لهجة وألفاظ وتعابير ومواقف يصعب بعدها أن تعود المياه إلى مجاريها بين هذه الحكومة ومعظم أعضاء مجلس الأمة وليس النواب المستجوبين فقط، حيث يذكر البيان: «تدارس مجلس الوزراء في هذا الاجتماع ما آلت إليه الأوضاع إثر التداعيات المترتبة على ما شهدته الساحة مؤخراً من مظاهر الفوضى والانحراف في الممارسة البرلمانية التي بلغت مرحلة مؤسفة من مراحل الإساءة للوضع العام والإضرار بالمصلحة الوطنية، والتي كان آخرها الاستجواب المقدم لسمو رئيس مجلس الوزراء، والذي جسد خروج الممارسة البرلمانية عن الثوابت الدستورية والقانونية والأعراف المستقرة بما أضحى معه السكوت عن هذا الانحراف تشجيعا للفوضى ودعوة لإفساد المجتمع تحت شعار الديمقراطية بما يؤدي إليه ذلك من إثارة للفتن وضرب للوحدة الوطنية وإضرار بمصلحة الوطن والمواطنين وعرقلة التنمية في البلاد»!
فبيان الحكومة اتهم الممارسات البرلمانية وليس الاستجواب إلا آخرها وفق وصفه، بأنّها مظاهر فوضى… وانحراف… وإساءة للوضع العام… وإضرار بالمصلحة الوطنية… وهي اتهامات قد يكون بعضها صحيحاً، وقد ينطبق معظمها على الحكومة قبل مجلس الأمة أو يتشاركان فيها… ولكن هل يعقل وهل يُقبل بعد أن أصدرت الحكومة مقدمة الاستقالة والراغبة الآن في العودة عنها مثل هذا البيان أن تعود الأمور بينها وبين المجلس إلى حالتها الطبيعية، بل ومن الصعب حتى أن تعود الأمور فقط إلى ما كانت عليه صباح يوم الثلاثاء الماضي إذا ما لم تقبل الاستقالة؟!
اللهم إلا إذا كان المقصود أن تعود الحكومة وتعود معها أجواء التصعيد والتوتر والاستفزاز ويتسع الخرق مع مجلس الأمة وليس مع النواب المستجوبين فقط ليتحقق ما كانت الحكومة تسعى إليه بانسحابها فتتم العودة مجدداً إلى الخيار المستبعد بحلّ المجلس؟!



عالم اليوم 1 ديسمبر 2008