حاول القوميون والشيوعيون والعديد من أصحاب الخيال السياسي قبل المذهبيين السياسيين الحاليين أن يخترعوا تنظيمات وأنظمة اجتماعية خاصة بهم من دون جدوى، وكانت الحصائل على المدى الطويل كارثية.
لا يعترف هؤلاء بالتشكيلة الرأسمالية التي سوف تستمر سنوات طويلة وتحطم تصوراتهم الخيالية وبرامجهم السياسية المحدودة التصور والآفاق.
يشترك المذهبيون السياسيون مع قرنائهم السابقين بكون البرجوازيات الصغيرة الصانعة لهذه التصورات هي منتجة هذين النشاطين النظري والسياسي، ولكن كل فصيل وجماعة تأخذ ذبذبتها الخاصة بكل ظرف وموقع، ففي حين دك الشيوعيون أنظمة الإقطاع وصنعوا رأسماليات عملاقة في روسيا والصين فإن المذهبيين السياسيين متذبذبون بين الإقطاع، معدنهم الأصلي، وبين الرأسمالية التي تظهر كعدو في مواقع متعددة هي الحرية السياسية والاجتماعية للنساء خاصة وللعقول، بينما حب المال لديهم في منتهى القوة.
إيران تحاول بعصر ملايين الفقراء داخلها وخارجها أن تقوم بقفزة الرأسمالية الحكومية لكن عبر مغامرات سياسية وعسكرية محفوفة بأشد أنواع المخاطر.
في حين ان الإقطاعيات السنية هرّبت الأموالَ للخارج وعجزت عن استغلال العمل القروي الرخيص والثروة النفطية الهائلة في إنتاج مجتمعات مقاربة للرأسمالية الحديثة.
وقد انهارت أبنية فكرية وثقافية وسياسية سابقة، وضاع أصحابها من دون نتاجات خلاقة في العلوم والآداب، لعدم فهم التاريخ وتركيبه المعقد، ويأتي جذر الأمر من عدم رؤية الحقيقة وتحليل مواد الحياة الحقيقية وإضفاء تصورات خيالية عليها، مما يضعف عملية فهم المادة الحياتية.
فالقاص الاشتراكي يقدم الطبقة العاملة كمنقذة تاريخية من النظام الرأسمالي، وهذا صحيح على مدى كوني وفي البلدان الرأسمالية المتطورة، وليس في مجتمع تفتقد فيه المرأة حتى الخروج الحر من البيت. وقد يكون هذا التقديم من قبل القاص الاشتراكي هروباً من أسئلة حرية زوجته وابنته، ومن عجزه عن تحليل الدين، فيقدم هروباً إلى الأمام.
وهكذا يفعل الشاعر في قفزته على واقع التخلف والأمية فيرى العنف أداة لحرق هذا المجتمع المتخلف وإحضار بديل من الصين أو من فيتنام.
وتمكن أغلب أداة البرجوازي الصغير منتج الأيديولوجية الشمولية الدينية الراهن في التعكز على الدين كمظلة تساعده على الهروب من الإجابة عن أسئلة الواقع الحقيقية، فلديه الأمور بسيطة؛ (الإسلام هو الحل)، (ابتعدوا عن ثقافة الغرب)، (الرأسمالية شر والاشتراكية شر).
ولكن كيف يمكن الهروب من الشركات العملاقة المسيطرة في العالم، ومن نظام البنوك والأجور؟
كيف وأولادك يرون من خلف ظهرك كل يوم (شرور) الرأسمالية الغربية، وبناتك محجبات وتحت الحجاب كل فساتين الموضة؟
كيف وهم يتكلمون عن الفضائل وممارسة تخزين المواد الغذائية في الشركات والمخازن وملء الجيوب؟ كلام ديني وممارسة استغلالية.
ثم يطرح أناس حل الأزمات الغربية في الاقتصاد الإسلامي.
وهي عملية أدلجة لتقوية الرأسمالية الدينية وبنوكها التي تكدس أموال المودعين باسم الإسلام وهي تجري تحت بنود مضاعفة الأرباح.
لكن الغربيين لا يخفون عيوبهم، وبغض النظر عن أدلجة الليبراليين الذين يعتقدون ان الرأسمالية نظام أبدي مطلق، فإنهم يكشفون عيوبهم، ويبحثون عن مواقع الأخطاء، ويطورون الرأسمالية بمزيد من مقاربة حاجات الناس وكبح الاندفاعات الشهوانية الهائلة للرأسمال الخاص.
إن الموجات الشمولية الشرقية لا تنتج شيئاً عميقاً في الوعي والثقافة والدين، ولهذا فإن الاتباع بعد تحطم كل موجة شمولية كبرى تراهم يواصلون شعارات الموجة، بلا إنتاج أو نقد عميق، لماذا؟ لأن الموجة لم تحرر عقولهم من التزمت، ومن سلق مواد الحياة وتعليبها في شعارات عامة، لأنهم لا يقرأون ولا يدرسون، لا يشترون كتباً لكي يقرأوا قصة أو بحثاً، المآتم والبكائيات والندب والعيش بين أطلال الماضي العظيم وذكرياته الرائعة، هي ما يجمعهم.
والشموليون الدينيون الحاليون هم أسوأ الموجات، جاءوا من مناطق مغمورة بالفقرين المادي والثقافي، ذات علاقات تقليدية محافظة عتيقة، وألقتهم مصادفات التطور لكي يصطدموا بأكثر أشكال الرأسمالية العالمية تطوراً، حكم الشركات الكبرى والبنوك والعولمة وانتشار الإنترنت، فماذا فعلوا بهذه الثروة المعرفية الكونية؟
في الإنترنت استغلوها للرسائل القصيرة والشتائم وتمجيد الأحزاب المذهبية وما إلى ذلك من غايات ضحلة لا ترتفع إلى المهمات التي ينبغي أن يتصدوا لها كتحليل هذه الأنظمة التي يعارضونها ورؤية إيجابياتها وسلبياتها، ورؤية احتمالات المستقبل ودرس المنطقة التي يعيشون فيها ويسخرون منها.
ما هي النتاجات التي صنعوها؟ أين البحوث؟ أين الدرس الموضوعي للعصر واحتمالاته المخيفة؟
تجد مئات المواقع التي لا تحوي سوى هذه المساهمات المتواضعة، وتأتي الرقابات لتقفلها وتكوّن لها أهمية.
في حين تجد أن المثقفين المستقلين والقراء الموضوعيين ينشئون مواقع يدرسون فيها الأدب والفن والفلسفة ويتناقشون بعمق.
والإشكالية التي تواجهنا هي أن أعضاء الموجات السياسية الشمولية نظراً لعامل الاستقواء ببعضهم بعضا، وباستعراض العضلات، ومساعدة بعضهم بعضا لفرض مناخ معين، يكونون مسئولين عن مصير الناس، وعن مستقبل ابنائهم، ويواجهون حكومات تتلاعب بمستوياتهم المعرفية البسيطة.
إذا كنا يجب أن نخرج من تحت مظلة الثقافة الغربية فلمزيد من الثقافة الغربية الديمقراطية والإنسانية، وإذا كنا نعمل لمواجهة الشركات العملاقة فمن أجل زيادة أرباحنا الوطنية ومحافظتنا على البيئة وتطوير معيشة الأغلبية، وإذا دخلنا الإنترنت فمن أجل فهمنا لمنطقتنا بموضوعية وليس عبر إسقاط مذهبيتنا التي لا ترى العالم إلا من خلال نظارتها الضيقة.
لكن هل نستطيع أن نوقف مسار الشموليات المذهبية الراهنة وصداماتها؟
قد نستطيع أن نحد من بعض أخطارها لكنها مثل المذنبات التي لها مساراتها وأجسامها الخاصة ودورانها، فإما أن تذهب في السماء العريضة وإما أن تصطدم بالأرض مخلفة دماراً كبيراً.
وتبقى الإجابة التاريخية عند مركز المذنبات هذه، لقد كانت مراكزها سابقاً في روسيا والصين، والقاهرة، والآن صارت لها مراكز أخرى.
أخبار الخليج 21 نوفمبر 2008